{ وأن أقم وجهك للدين حنيفا}
موقع هذه الجملة مُعضل لأن الواو عاطفة على محالة ،ووقعت بعدها ( أنْ ) .فالأظهر أن تكون ( أنْ ) مصدرية ،فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة ( أنْ ) أن تكون جملة خبرية .قال في « الكشاف »: قد سوغ سيبويه أن توصف ( أن ) بالأمر والنهي ،لأن الغرض وصل ( أن ) بما تكون معه في معنى المصدر ،وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال اهـ .يشير إلى ما في « كتاب سيبويه » « بابٌ تكون ( أنْ ) فيه بمنزلة ( أيْ )» .فالمعنى: وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفاً ،ويكون العطف عطف مفرد على مفرد .
وقيل الواو عطفتْ فعلاً مقدّراً يدل عليه فعل ( أمرت ) .والتقدير: وأوحي إلي ،وتكون ( أنْ ) مفسرة للفعل المقدر ،لأنه فيه معنى القول دون حروفه .
وعندي: أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضًى بلاغي ،فلا بد من أن يكون لصيغة{ أقم وجهك} خصوصية في هذا المقام ،فلنُعرض عمّا وقع في « الكشاف » وعن جعل الآية مثالاً لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعاً في استعمالها بأن استعملت نائبة مَناب الفعل الذي عَطفت عليه ،أي فعلَ{ أمرت}[ يونس: 104] دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره .والتقديرُ: أمرت أنْ أقم وجهك فتكون ( أن ) تفسيراً لما في الواو من تقدير لفظ فعل ( أمرْت ) لقصد حكاية اللفظ الذي أمره الله به بلفظه ،وليتأتّى عطف{ ولا تكونن من المشركين} عليه .وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات ،وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى:{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله} في سورة[ العقود: 49] ،وهو هنا أوْعب .
والإقامة: جعل الشيء قائماً .وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر .واللام للعلة ،أي لأجل الدين ،فيصير المعنى: محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكاً في توجهك .وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها .وقريب منه قوله:{ أسلمت وجهي لله} في سورة[ آل عمران: 20] .
و{ حنيفاً} حال من{ الدين} وهو دين التوحيد ،لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله .وقد تقدم عند قوله تعالى:{ قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} في سورة[ البقرة: 135] .
{ ولا تكونن من المشركين}
نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحاً بمعنى{ حنيفاً} .وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرّؤ من الشرك .
وقد تقدم غير مرة أن قوله:{ من المشركين} ونحوَه أبلغ في الاتصاف من نحو: لا تكن مشركاً ،لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك .