أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ،إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ،وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ،ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ،فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ،فذلك أيضاً لطف خارق للعادة .وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .
وقوله:{ رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال{ وما فعلته عن أمري} علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ،فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى .وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربّي ،تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ،لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .
وانتصب{ رحْمَةً} على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ،و ( أردنَا ) ،و ( أراد ربّك ) .
وجملة{ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً} فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله{ أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين} ،فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .
و{ تَسْطِعْ} مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) .حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ،والمخالفةُ بينه وبين قوله{ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه .وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر{ تَسْتَطِع} يحصل من تكريره ثقل .
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله{ سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً} تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ،وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ،وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ،وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ،وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ،وسموه الوحي الإلهامي ،وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ،وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ،وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ،والثامن والستين بعد المائتين ،والرابع والستين بعد ثلاثمائة ،وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ،وأطال في ذلك ،ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ،وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة .v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ،وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم .وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ،وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ،ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ،لقوله{ وما فعلته عن أمري} ،وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ،وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ،وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ،أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .
فكونوا على حذر ممن يقول: أخبرني الخَضر .