الفاء للتّعقيب لِحكاية قول الذين استكبروا:{ إنّا بالذي آمنتم به كافرون}[ الأعراف: 76] ،أي قالوا ذلك فعقروا ،والتّعقيب في كلّ شيء بحسبه ،وذلك أنّهم حينَ قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتّكذيب ،وصمّموا عليه ،وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ،فعزموا على المصير إلى النّكاية والإغاظة لصالح عليه السّلام ومن آمنَ به ،ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على النّاقة التي جعلها صالح عليه السّلام لهم ،وأقامها بينَه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرّضين لها بسوء ،ومقصدهم من نيّتهم إهلاك النّاقة أن يزيلوا آية صالح عليه السّلام لئلا يزيد عدد المؤمنِين به ،لأنّ مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشِربها ،ولأنّ في اعتدائهم عليها إيذاناً منهم بتحفزهم للإضرار بصالح عليه السّلام وبمن آمن به بعدَ ذلك وليُرُوا صالحاً عليه السّلام أنّهم مستخفّون بوعيده إذ قال لهم:{ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}[ الأعراف: 73] .
والضّمير في قوله:{ فعقروا} عائد إلى{ الذين استكبروا}[ الأعراف: 75] ،وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحداً منهم لأنّه كان عن تمالىء ورضى من جميع الكبراء ،كما دلّ عليه قوله تعالى في سورة القمر ( 29 ):{ فَنادَوْا صاحبَهم فتعاطى فعَقر} وهذا كقول النّابغة في شأن بني حُنّ:
وهم قتلوا الطاءيّ بالجوّ عنوة *** وإنَّما قتله واحد منهم
وذُكر في الأثر: أنّ الذي تولّى عقر النّاقة رجل من سادتهم اسمه ( قُدار ) بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ابن سالف .وفي حديث البخاري أنّ النبي ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال: انبعثَ لها رجل عزيز عَارِم منيعٌ في رهطه مثل أبي زمْعة .
والعَقْر: حقيقته الجرح البليغ ،قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بِنَا معا *** عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
أي جرحتَه باحتكاك الغبيط في ظهره من مَيله إلى جهةٍ ،ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ،ومنه قولهم ،عَقَرَ حمارَ وحش ،أي ضربه بالرّمح فقطع منه عضواً ،وكانوا يعقرون البعير المرادَ نحرُه بقطع عضوٍ منه حتّى لا يستطيع الهروب عند النّحر ،فلذلك أطلق العقر عن النّحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس:
ويَومَ عَقَرْتُ للعذارَى مطيَّتي
وما في هذه الآية كذلك .
والعُتوّ تجاوز الحد في الكِبْر ،وتعديته ب ( مَن ) لتضمينه معنى الإعراض .
وأمرُ ربّهم هو ما أمرهم به على لسان صالح عليه السّلام من قوله:{ ولا تمسوها بسوء}[ الأعراف: 73] فعُبّر عن النّهي بالأمر لأنّ النّهي عن الشّيء مقصود منه الأمر بفعل ضدّه ،ولذلك يقول علماء الأصول إنّ النّهي عن الشّيء يستلزم الأمرَ بضدّه الذي يحصل به تحقّق الكفّ عن المنهي عنه .
وأرادوا:{ بما تعدنا} العذاب الذي توعَّدهم به مجملاً .
وجيء بالموصول للدّلالة على أنّهم لا يخشون شيئاً ممّا يريده من الوعيد المجمل .فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعد .
وقد فرضوا كونَه من المرسلين بحرف ( إنْ ) الدّال على الشكّ في حصول الشّرط ،أي إن كنتَ من الرّسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صَدق عليهم هذا اللّقب .وهؤلاء لجهلهم بحقيقة تصرّف الله تعالى وحكمته ،يحسبون أنّ تصرّفات الله كتصرّفات الخلق ،فإذا أرسل رسولاً ولم يصدّقْه المرسَل إليهم غَضِب الله واندَفع إلى إنزال العقاب إليهم ،ولا يعلمون أنّ الله يُمهل الظّالمين ثمّ يأخذهم متى شاء .