والفاء في قوله:{ فتولى عنهم} عاطفة على جملة:{ فعقروا الناقة}[ الأعراف: 77] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب ،ويطلق مجازاً على عدم الاكتراث بالشّيء ،وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم ،فيكون التّعقيب لقوله:{ فعقروا الناقة}[ الأعراف: 77] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين .
ويحتمل أن يكون مجازاً بقرينة الخطاب أيضاً ،أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة ،أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى:{ لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين}[ الشعراء: 3] .
فعلى الوجه الأول يكون قوله:{ يا قومِ لقد أبلغتكم} إلخ مستعملاً في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم ،وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملاً في التحَسر أو في التّبرىء منهم ،فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ ،مثل ما تنادَى الحسرة في: يا حسرة .
وقوله:{ لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم} تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه السّلام:{ أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم}[ الأعراف: 62] واللاّم في ( لقد ) لام القسم ،وتقدّم نظيره عند قوله:{ لقد أرسلنا نوحاً}[ الأعراف: 59] .
والاستدراك ب ( لكن ) ناشىء عن قوله:{ لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم} لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم ،سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ،فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لإنعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة ،فاستدرك بقوله:{ ولكن لا تحبّون النّاصحين} ،أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم ،لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ،فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة .
واستعمال المضارع في قوله:{ لا تحبّون} إن كان في حال سماعهم قولَه فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير ،أي لم يزل هذا دأبَكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّه للإقلاع عمّا هم فيه ،وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى:{ والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً}[ فاطر: 9] .