وأخبر عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الناس . فقال:{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [ الشعراء:84] ، وبشر عباده:أن لهم عنده قدم صدق ، ومقعد صدق ، فقال تعالى:{ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} [ يونس:2] ، وقال:{ إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [ القمر:54 . 55] .
وهذه خمسة أشياء:مدخل الصدق ، ومخرج الصدق ، ولسان الصدق ، وقدم الصدق ، ومقعد الصدق .
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء:هو الحق الثابت المتصل بالله ، الموصل إلى الله ، وهو ما كان به وله ، من الأقوال والأعمال ، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة .
فمدخل الصدق ومخرج الصدق:أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله ، ولله ، وفي مرضاته ، متصلا بالظفر بالبغية ، وحصول المطلوب ، ضد مخرج الكذب ومدخله ، الذي لا غاية له يوصل إليها ، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها . كمخرج أعدائه يوم بدر ، ومخرج الصدق:كمخرجه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في تلك الغزوة . وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله ، ولله ، وابتغاء مرضاة الله . فاتصل به التأييد والظفر والنصر ، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة ، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب . فإنه لم يكن لله ، ولا بالله ، بل كان محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار ، وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابه معهم ما أصابهم .
فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وابتغاء مرضاة الله:فصاحبه ضامن على الله . فهو مدخل صدق ومخرج صدق .
وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء ، وقال:اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك ، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق . ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه:بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ، ودخوله المدينة . ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل . فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه صلى الله عليه وسلم وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق ، إذ هي لله وبالله وبأمره ، ولابتغاء مرضاته .
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب . فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب . والله المستعان .
وأما لسان الصدق:فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق ، ليس ثناء بالكذب ، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه{ وجعلنا لهم لسان صدق عليا} [ مريم:50] .
والمراد باللسان هاهنا:الثناء الحسن . فلما كان الصدق باللسان ، وهو محله ، أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق ، جزاء وفاقا ، وعبر به عنه .
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان:هذا ، واللغة ، كقوله تعالى:{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [ إبراهيم:4] وقوله:{ واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [ الروم:22] وقوله:{ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [ النحل:103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى:{ لا تحرك به لسانك لتعجل به} [ القيامة:16] .
وأما قدم الصدق:ففسر بالجنة ، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم وفسر بالأعمال الصالحة .
وحقيقة القدم:ما قدموه ، وما يقدمون عليه يوم القيامة ، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك .
فمن فسره بها أراد ما يقدمون عليه ، ومن فسره بالأعمال ، وبالنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم ، فالثلاثة قدم صدق .
وأما مقعد الصدق:فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى .
ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره ، وأنه حق مستلزم لدوامه ونفعه وكمال عائدته ، فإنه متصل بالحق سبحانه ، كائن به وله ، فهو صدق غير كذب ، وحق غير باطل . ودائم غير زائل ، ونافع غير ضار ، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل .