ثم قال تعالى{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} وهذا كلام جديد منقطع عما قبله وقالوا إن ( أم ) هنا للاستفهام لا للإضراب لأن أم التي تستعمل بمعنى ( بل ) يقصد بها الإضراب عن الكلام السابق ولا يظهر الإضراب هنا .هذا ما اختاره الأستاذ الإمام من قولهم .
( قال ) واستشهدوا لأم الاستفهامية بقول الشاعر:
فو الله لا أدري أهند تقولت ***أم القوم ، أم كل إلي حبيب ؟
وبعض المفسرين يقولون إن"أم "هذه منقطعة للإضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم فهي تتضمن الإضراب والاستفهام معا ، وتجد الجلالين يقدران ذلك في تفسيرهما وقد قدرا فيه هنا"بل أتريدون "والحاصل أن المعنى هنا أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل موسى قومه تبرما وإعناتا ؟ يحذر المسلمين ما فعل أولئك وقد أتبع التحذير بالوعيد فقال{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} أي إن ترك الآيات الموجودة والإعراض عنها لإعنات النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال غيرها لتكون بدلا منها هو من اختيار الكفر على الإيمان واستحباب العمى على الهدى .وبدل وتبدل واستبدل يدل على جعل شيء في موضع آخر بدلا منه والباء تقرن بالمبدل منه لا بالبدل كما أشرنا إليه في تفسير{ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} .
( الأستاذ الإمام ) هذا تقرير ما جرى عليه المفسرون في الآيات .وإذا وازنا بين سياق آية{ ما ننسخ} وآية{ وإذا بدلنا آية مكان آية} نجد أن الأولى ختمت بقوله تعالى{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} والثانية بقوله{ والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات .فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية الثانية يقتضي أن يراد بالآيات فيها آيات الأحكام .
وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضع الأحكام ونسخها وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة فلو قال{ ألم تعلم أن الله عليم حكيم} لكان لنا أن نقول إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة .وقد تحير العلماء في فهم الإنساء على الوجه الذي ذكروه حتى قال بعضه إن معنى ( ننسها ) نتركها على ما هي عليه من غير نسخ وأنت ترى أن هذا وإن صح لغة لا يلتئم مع تفسيرهم إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة ( قال ) والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي{ ما ننسخ من آية} نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أن نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك .ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه .والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء وسميت جمل القرآن آيات أنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل ، من قبيل تسمية الخاص باسم العام .
ولقد كان من يهود من يشكك في رسالته عليه السلام بزعمهم أن النبوة محتكرة لشعب إسرائيل ، ولقد تقدمت الآيات في تفنيد زعمهم هذا وقالوا{ لولا أوتي مثلما أوتي موسى} أي من الآيات ، فرد الله تعالى عليهم في مواضع منها قوله عز وجل بعد حكاية قولهم هذا{ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} الخ ومنها هذه الآيات والخطاب فيها للمؤمنين الذين كان اليهود يريدون تشكيكهم كأنه يقول إن قدرة الله تعالى ليست محدودة ولا مقيدة بنوع مخصوص من الآيات أو بآحاد منها لا نتناول غيرها ، وليست الحجة محصورة في الآيات السابقة لا تتعداها ، بل الله قادر على أن يأتي بخير من الآيات التي أعطاها موسى وبمثلها ، فإنه لا يعجز قدرته شيء ، ولا يخرج عن ملكه شيء ، كما أن رحمته ليست محصورة في شعب واحد فيخصه بالنبوة ، ويحصر فيه هداية الرسالة ، كلا إن رحمته وسعت كل شيء ، كما أن قدرته تصرف بكل شيء من ملك السموات والأرض الذي لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه فيه منازع ، فيكون وليا ونصيرا لمن كفر بنعمه وانحرف عن سننه .
أنظر كيف أسفرت البلاغة عن وجهها في هذا المقام فظهر أن ذكر القدرة وسعة الملك إنما يناسب الآيات بمعنى الدلائل دون معنى الأحكام الشرعية والأقوال الدالة عليها من حيث هي دالة عليها لا من حيث هي دالة على النبوة – ويزيد هذا سفورا ووضوحا قوله عقبه{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟} فقد كان بنو إسرائيل لم يكتفوا بما أعطي موسى من الآيات وتجرءوا على طلب غيرها وقالوا{ يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وكذلك كان فرعون وقومه كلما رأوا آية طلبوا غيرها حتى رأوا تسع آيات بينات ولم يؤمنوا وقوله تعالى{ كما سئل موسى} يشمل كل ذلك .
قد أرشدنا الله تعالى بهذا أن التفتن في طلب الآيات وعدم الإذعان لما يجئ به النبي منها والاكتفاء بعد العجز عن معاوضته هو دأب المطبوعين على الكفر الجامدين على المعاندة والمجاحدة ، فإنه قال بعد إنكار هذا الطلب{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} ويوضح هذا قوله تعالى في آية أخرى{ 17:59 وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب به الأولون} والمراد الآيات المقترحة ، بدليل السياق ، وهو اتفاق بين المفسرين .ولو كان الموضوع موضوع طلب استبدال أحكام بأحكام تنسخها لما كان للتوعد بالكفر وجه وجيه .وقوله تعالى{ فقد ضل سواء السبيل} معناه أنه أخطأ وسط الجادة ومال إلى أحد الجانبين ومتى انحرف السائر في سيره عن الوسط يخرج عن المنهج ويبعد عنه كلما أوغل في السير فيهلك دون الوصول إلى المقصد:والمراد بسواء السبيل الحق والخير اللذان تكمل الفطرة بالاستقامة على السير في طريقهما ، ومن مال عن الحق وقع في الباطل لا محالة{ 10:22 فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟} .
/خ108