/م111
قال تعالى ردا عليهم{ بلى} وهي كلمة تذكر في الجواب لإثبات نفي سابق فهي مبطلة لقولهم{ لن يدخل الجنة} الخ ، أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى ، لأن رحمة الله ليست خاصة بشعب دون شعب ؛ وإنما هي مبذولة لكل من يطلبها ويعلم لها عملها ، وهو ما بينه سبحانه وتعالى بقوله{ من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} إسلام الوجه لله هو التوجه إليه وحده وتخصيص بالعبادة دون سواه ، كما أشار إلى ذلك في قوله{ إياك نعبد وإياك نستعين} وغيرها من الآيات .وقد عبر هنا عن إسلام القلب وصحة القصد إلى الشيء بإسلام الوجه كما عبر عنه بتوجيه الوجه في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم{ 6:79 إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض} لأن قاصد الشيء يقبل عليه بوجهه لا يوليه دبره فلما كان توجيه الوجه إلى شيء له جهة تابعا لقصده واشتغال القلب به عبر عنه به وجعل التوجه بالوجه إلى جهة مخصوصة ( وهي القبلة ) بأمر الله مذكرا بإقبال القلب على الله الذي لا تحدده الجهات ، فالإنسان يتضرع ويسجد لله تعالى بوجهه وعلى الوجه يظهر أثر الخشوع وظاهر أن المراد من إسلام الوجه لله توحيده بالعبادة والإخلاص له في العمل ، بأن لا يجعل العبد بينه وبينه وسطاء يقربونه إليه زلفى ، فإنه أقرب إليه من حبل الوريد .ومن هنا يفهم معنى الإسلام الذي يكون به المرء مسلما .
ذكر التوحيد والإيمان الخالص ولم يحمل على الوعد بالأجر عند الله تعالى واستحقاق الكرامة في دار المقامة إلا بعد أن قيده بإحسان العمل فقال{ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} وتلك سنة القرآن تقرن الإيمان بعمل الصالحات كقوله{ 4:123 ، 124 ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب:من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} وهذا في معنى الآيات التي نفسرها .نفى أماني المسلمين كما نفى أماني أهل الكتاب ، وجعل أمر سعادة الآخرة منوطا بالإيمان والعمل الصالح معا .وكقوله{ 21:94 فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} الآية .
ثم بعد أن أثبت للمسلم وجهه إلى الله والمحسن في عمله الأجر عند الله نفى عنه الخوف الذي يرهق الكافرين والمسيئين في هذه الدنيا وفي تلك الدار الآخرة والحزن الذي يصيبهم فقال{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ولا شك أن المخاوف والأحزان تساور الذين لبسوا إيمانهم بظلم الوثنية ، وأساءوا أعمالهم بالإعراض عن الهداية الدينية .
ترى أصحاب النزغات الوثنية في خوف دائم مما لا يخيف ، لأنهم يعتقدون بثبوت السلطة الغيبية القاهرة لكل ما يظهر لهم منه عمل لا يهتدون إلى سببه ولا يعرفون تأويله ، يستخذون للدجالين والمشعوذين ، ويرتعدون من حوادث الطبيعة الغريبة ، إذا لاح لهم نجم مذنب تخيلوا أنه منذر يهددهم بالهلاك ، وإذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم من الفساد توهموا أنها من تصرف بعض العباد ، وتراهم في جزع وهلع من حدوث الحوادث ، ونزول الكوارث ، لا يصبرون في البأساء والضراء ، ولا ينفقون في الرخاء والسراء{ 70:19 – 23 إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين الذي هم على صلاتهم دائمون} هذه حال من فقد التوحيد الخالص وحرم من العمل الصالح في هذه الحياة الدنيا{ 41:16 ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} وإنما كان صاحب النزغات الوثنية في خوف مما يستقبله ، وحزن مما ينزل به ، لأن ما اخترعه له وهمه من السلطة الغيبية لغير الله التي يحكمها في نفسه ، ويجعلها حجابا بينه وبين ربه ، لا يمكنه أن يعتمد في الشدائد عليها ، ولا يجد عندها غناء إذا هو لجأ إليها ، وما هو من سلطتها على يقين ، وإنما هو من الظانين أو الواهمين .
وأما ذو التوحيد الخالص فهو يعلم أنه لا فاعل إلا الله تعالى وأنه من رحمته قد هدى الإنسان إلى السنن الحكيمة التي يجري عليها في أفعاله ، فإذا أصابه ما يكره بحث في سببه واجتهد في تلافيه من السنة التي سنها الله تعالى لذلك ، فإن كان أمرا لا مرد له سلم أمره فيه إلى الفاعل الحكيم ، فلا يحار ولا يضطرب لأن سنده قوي عزيز ، والقوة التي يلجأ إليها كبيرة لا يعجزها شيء ، فإذا نزل به سبب الحزن أو عرض له مقتضى الخوف لا يكون أثرها إلا كما يطيف الخاطر بالبال ، ولا يلبث أن يعرض له الزوال{ 13:28 الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} فكأنه تعالى يقول لأهل الكتاب:لا تغرنكم الأماني ولا يخدعنكم الانتساب الباطل إلى الأنبياء ، فهذه هي طريق الجنة ، أسلموا وجوهكم لله تسلموا واعملوا الصالحات تؤجروا ، وقد أفرد الضمير في قوله{ فله أجره} مراعاة للفظ ( من ) وجمعه في قول{ ولا خوف عليهم} الخ مراعاة لمعناها .