/م111
بعد أن ذكر تزكية كل فريق من أهل الكتاب نفسه وحكمه بحرمان غيره من رحمة الله كيفما كانت حاله ذكر طعن كل فريق منهما بالآخر خاصة فقال{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} من الدين حقيقي يعتد به ، فالشيء في اللغة هو الموجود المتحقق ، والاعتقادات الخيالية التي لا تنطبق على موجود في الخارج لا تسمى شيئا ، فكفروا بعيسى وهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من العلامات ما ينطبق عليه ، ولا تزال اليهود إلى اليوم تدعى أن المسيح المبشر به في التوراة لما يأت وتنتظر ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل{ وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} من الدين حقيقي يعتد به لإنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم يقول كل فريق منهم ما يقول{ وهم يتلون الكتاب} أي يتلو كل منهم كتابه فكتاب الأولين ( التوراة ) يبشر برسول منهم ظهر ولم يؤمنوا به فهم مخالفون لكتابهم ، وكتاب الآخرين ( الإنجيل ) يقول بلسان المسيح:إنه جاء متمما لناموس موسى ، لا ناقضا له ، وهم قد نقضوه ، فدينهم واحد ، ترك بعضهم أوله وبعضهم آخره فلم يؤمن به كله أحد منهم ، والكتاب الذي يقرؤون حجة عليهم .
ثم قال تعالى{ كذلك} أي نحو ذلك السخف والجزاف{ قال الذين لا يعلمون} من مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل{ مثل قولهم} تعصب كل لملته التي جعلها جنسية وزعم أنها هي المنجية لكل من وسم بها ورضي باسمها ولقبها ، والحق وراء جميع المزاعم لا يتقيد بأسماء ولا ألقاب ، وإنما هو إيمان خالص وعمل صالح ، ولو اهتدى الناس إلى هذا لما تفرقوا في الدين واختلفوا في أصوله ولكنهم تعصبوا وتحزبوا لأهوائهم ، فتفرقوا واختلفوا في آرائهم{ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} فإنه هو العليم بما عليه كل فريق من حق وباطل .ولم يبين لنا تعالى هنا بماذا يحكم .وقال بعض المفسرين إنه يكذبهم جميعا ثم يلقيهم في النار ، ولكن الذي يدل عليه القرآن أنه يحق الحق ويجعل أهله في النعيم ، ويبطل الباطل ويلقي بأهله في الجحيم .
هذا هو معنى الآية .ويروى في سبب نزولها أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال كل فريق منهم ما قال في إنكار حقيقة دين الآخر .قال الأستاذ الإمام:إن فهم الآية لا يتوقف على هذه الرواية ، فالآية تحكي لنا اعتقاد كل طائفة بالأخرى سواء قال ذلك من ذكر أو لم يقله .على أن ما يروى في أسباب النزول من مثل ذلك هو من تاريخ الآيات وما فيها من الوقائع ، وما روي في أسباب النزول عندنا غير كاف في ذلك ، فلا بد لنا من البحث والاطلاع على تاريخ الملل والأمم التي تكلم عنها القرآن لأجل أن نفهمه تمام الفهم ونعرف ما يحكيه عنهم من العقائد والشئون والأعمال ، هل كان عاما فيهم أو كان في طائفة منهم وأسند إلى الأمة لما نبهنا عليه مرارا من إرادة تكافلها ومؤاخذة الجميع بما يصدر عن بعض الأفراد لأنهم كلفوا إزالة المنكر والتناهي عنه ؟
والعبرة في الآية أن أهل الكتاب في تضليل بعضهم بعضا واعتقاد كل واحد في الآخر أنه ليس على شيء حقيق من أمر الدين مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى ، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود ، قد صاروا إلى حال من التهافت واتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم في نفسه ولا في غيره ، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا ينهض حجة على كونهم علموا أنه مخالف للحق ، بل لا يصلح شبهة على ذلك لأنهم أهل أهواء ، وتعصب للمذاهب المبتدعة والآراء ، فإذا كانت اليهود كفرت بعيسى وأنكرته وهو منهم وهم ينتظرونه لإعادة مجدهم وتجديد عزمهم ، وإذا كانت النصارى قد رفضت التوراة وكفرت أهلها وهي حجتهم على دينهم ، فكيف يعتد بكفر هؤلاء وهؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو من شعب غير شعبهم ، وقد جاء بشريعة ناسخة لشرائعهم ، وهم لا يفهمون من الدين إلا أنه جنسية دنيوية لهم ؟
وفي الآية إرشاد إلى بطلان التقليد مؤيد لما في الآية التي تطالب المدعي بالبرهان ، وإلى النعي على المقلدين المتعصبين لآرائهم ، المتبعين لأهوائهم ، وإلى التحري في الحكم على الشيء يعتقد الحاكم بطلانه لأنه مخالف لما يعتقده ، فلا ينبغي للعاقل أن يحكم على شيء إلا بعد البحث والتحري ومعرفة مكان الخطأ والتزييل بينه وبين ما عساه يكون معه صوابا .ألم تر أن سياق الآيات ناطق بإنكار حكم كل من الفريقين على الآخر من غير بينة ولا برهان ، ولا فصل ولا فرقان ، مع أن كل واحد منهم على شيء من الباطل لأن أصل دينه حق ثم طرأت عليه نزعات الوثنية والبدع وعرض له التحريف والتأويل ، فتجر يده من كل حق لم يكن إلا تعصبا للتقاليد من غير بينة ولا تمحيص ، وأنى للمقلدين بذلك ؟ وانظر كيف ألحق التقليد أهل الكتاب الذين كانوا على علم بالدين الإلهي بالمشركين الذين لا يعلمون منه شيئا ؟ هذا ما فعله التقليد بهم وبمن بعدهم لأنه عدو للعلم في كل زمان وكل مكان .