/م84
ثم بعد بيان هذا الميثاق وتسجيله عليهم بأنهم يعرفونه لا ينكرون منه شيئا ذكر نقضهم إياه فقال{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} الحاضرون الشاهدون المشاهدون{ تقتلون أنفسكم} أي يقتل بعضكم بعضا ، كما كان يفعل من قبلكم مع اعترافكم بأن الميثاق مأخوذ عليكم كما كان مأخوذا عليهم:كان بنو قينقاع من اليهود أعداء بني قريظة إخوانهم في الدين وكان الأولون حلفاء الأوس ، والآخرون مع بني النضير حلفاء الخزرج .ثم افترقوا فبقي بنو النضير مع الخزرج وحالف بنو قريظة الأوس ، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانوا يقتتلون ومع كل حلفاؤه ، فهذا ما احتج الله تعالى على بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم في عصر التنزيل .ويتبع هذا القتال الأسر ، ومن لوازمه الإخراج من الديار ولذلك قال{ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} والتظاهر التعاون وتظاهرون أصله تتظاهرون كما قرأ الجمهور ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التائين للتخفيف وهو مقيس مشهور .كان كل فريق من اليهود يظاهر حلفاء من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب ، وبالعدوان كالإخراج من الديار .
ومن مثارات العجب أنهم كانوا إذا اتفقوا على فداء الأسرى يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه ويعتذرون عن هذا بأنهم مأمورون في الكتاب بفداء أسرى شعب إسرائيل .فإن كانوا مستمسكين بالكتاب فلم قاتلوا شعب إسرائيل وأخرجوهم من ديارهم وهم منهيون عن ذلك في الكتاب ؟ هذا لعب بالكتاب واستهزاء بالدين ولذلك قال تعالى{ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} بعد أن كنتم أسرتموهم وأخرجتموهم بالتظاهر عليهم مع العرب{ وهو محرم عليكم إخراجهم} بميثاق أغلظ من طلب مفاداتهم{ أفتؤمنون ببعض الكتاب} وهو فداء الأسرى{ وتكفرون ببعض} آخر منه وهو النهي عن القتل والإخراج ؟ أليس من الحماقة والهزء والسخرية أن يدعي مدع مثل هذا الإيمان بأهون الأمور مع الكفر بأعظمها ؟ والإيمان لا يتجزأ فالكفر بالبعض كالكفر بالكل .
قال الأستاذ الإمام:في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله تعالى{ وأحاطت به خطيئته} فالقرآن يصرح هنا وفي آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته ، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله تعالى تائبا ، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله تعالى عنه وتحريمه له ، فهو كافر به ، لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله تعالى ، المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته ، ولا يمكن أن لا يكون لإيمان قلبه أثر في نفسه ، فإن من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس ، ولكل أثر في النفس تأثيرا في الأعمال .وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة الناطقة بأنه"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ؛ ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ".
سمى الله الذنب ههنا كفرا لما تقدم وتوعد عليه بوعيد الكفر فقال{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} الخ أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين الذي يجمعهم ، والشريعة التي هي مناط وحدتهم ، ورباط جنسيتهم ؛ بالخزي العاجل ، والعذاب الآجل ، وقد دل المعقول ، وشهد الوجود ، بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها ؛ واعتدت حدود شريعتها ، إلا وانتكث فتلها ، وتفرق شملها ، ونزل بها الذل والهوان ، وهو الخزي المراد في القرآن ، وهذه هي سنة الخليقة ذكرها ليعتبر بها من صرفته الغفلة عنها .
وأما العذاب الآجل الذي عبر عنه بقوله{ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فهو على كونه من عالم الغيب معقول المعنى ، وهاد إلى حكمة عليا ، ذلك أن النفوس البشرية إذا سحل مريرها ، واختلت بفساد الأخلاق أمورها وكثرت في هذا العالم شرورها ، حتى سلبت ما أعده الله تعالى لمن حافظوا على الحقيقة ، واستقاموا على الطريقة ، تكون جديرة بأن تسلب في الآخرة ما أعده الله تعالى للأرواح العالية ، وما وعد به أصحاب النفوس الزاكية ، فإن سعادة الدار الدنيا لم تكن أجرا على أعمال بدنية ، لا تتعلق بصلاح النفس في خلق ولا نية ، وإنما هي ثمرة تزكية النفس ، التي يتوسل إليها بعمل الحس ، فإذا كان هذا شأن سعادة الدنيا فكيف يكون نعيم الآخرة جزاء حركات جسدية ، وهي الدار التي تغلب فيها الروحانية ؟ ؟ ؟{ 91:7 – 10 ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} .
{ وما الله بغافل عما تعملون} بل هو محيط به لا يخفى عليه منه شيء .وقد قرأ عاصم في رواية المفضل ( تردون ) بالخطاب لمناسبة قوله ( منكم ) كما قرأ الجمهور ( تعملون ) بالخطاب لذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ويعقوب ( يعملون ) على الغيبة لرجوع الضمير إلى ( من يفعل ) .
/خ86