ولما بين سبحانه أن دينه واحد وأن رسله متفقون فيه قال في منكري نبوة محمد{ أفغير دين الله يبغون} قرأ حفص عن عاصم"يبغون "بالياء على الغيبة وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب .وهمزة الاستفهام الإنكاري داخلة على فعل محذوف والفاء الداخلة على"غير "عاطفة للجملة بعده على ذلك المحذوف الذي دل عليه العطف وعينه الكلام السابق .والمعنى:أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام
{ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها} أي والحال أن جميع من في السموات والأرض من العقلاء قد خضعوا له تعالى وانقادوا لأمره طائعين وكارهين .قد اختلفوا في بيان الإسلام الطوع والكره ، فذهب يعضهم إلى أن الإسلام هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام لا بالتكليف .أي إنه تعالى هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون المنقادون لتصرفه .وقال الرازي:إن هذا هو الأصح عنده ولم يذكر فيه معنى الطوع والكره وكأنه يعني أن ما يحل بالعقلاء من تصاريف الأقدار منه ما يصحبه اختيارهم عن رضى واغتباط فيكونون خاضعين له طوعا ، ومنه ما ليس كذلك فيحل به وهم له كارهون{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [ الإسراء:44] .
ويقابل هذا:أن الإسلام متعلق بالتكليف والدين فقط .وصاحب هذا القول يفسر إسلام الكره بما يكون عند الشدائد الملجئة إليه ، كما قال تعالى:{ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآيتنا إلا كل ختار كفور} [ لقمان:32] وقال:{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [ العنكبوت:65] .ومنهم من قال إن إسلام الكره ما يكون عند رؤية الآيات كما وقع لقوم موسى ، وقيل ما يكون عند الخوف من السيف ، وقيل ما يكون عند الموت إذ يشرف الكافر على الآخرة ولكنه إسلام لا ينفعه .
وهناك مذهب ثالث وهو أن هذا الإسلام أعم من إسلام التكليف وإسلام التكوين فهو يشمل ما يكون بالفطرة وما يكون بالاختيار .وفي هذا المذهب وجوه قال الحسن الطوع لأهل السموات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضه بالكره .وقيل إن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [ لقمان:25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها .وقيل المسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك .وأما المكابرون فهم ينقادون لله كرها على كل حال في التكليف والتكوين .وهذه وجوه ضعيفة كما ترى .
وقال الأستاذ الإمام:إن الذين أسلموا طوعا هم الذين لهم اختيار في الإسلام وأما الذين أسلموا كرها فهم الذين فطروا على معرفة الله تعالى كالأنبياء والملائكة .وإن كان لفظ الكره يطلق في الغالب على ما يخالف الاختيار ويقهره ، فإن الله تعالى قد استعمله في غير ذلك ، كقوله بعد ذكر خلق السماء في الكلام على التكوين{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} [ فصلت:11] فأطلق الكره وأراد به لازمه وهو عدم الاختيار .
أقول:وهذا سهو فيما يظهر لي وكنت في أيام حياته أراجعه في مثله قبل الكتابة والطبع ، وبيانه أن تتمة الآية{ قالتا أتينا طائعين} .فالظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله تعالى بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع .وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما فعل طوعا وما يفعل كرها .وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له ، ومنه ما يكونون راضين به .فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضى .وصفوه الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص في الخضوع له .وأن الأنبياء كلهم كانوا على ذلك وقد أخذ ميثاقهم بذلك على أممهم ولكنهم نقضوه ، فجاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه ، فهم بذلك قد ابتغوا غير دينه الذي زعموه{ وإليه يرجعون} فيجزيهم بما كانوا يعلمون .
قرأ حفص"يرجعون "بالياء كما قرأ"يبغون "وكذلك أبو عمرو على أنه قرأ"تبغون "بالتاء كالجمهور ، فهو قد جعل الخطاب أولا لليهود وجعل الكلام في المرجع عاما وقرأ الباقون"ترجعون "وفاقا لقراءتهم"تبغون ".