{ فإذا قضيتم الصلاة} أي أديتموها وأتممتوها في حال الخوف كما بينا لكم من القصر منها ، وهو كقوله{ فإذا قضيت الصلاة} [ الجمعة:10] وقوله{ فإذا قضيتم مناسككم} [ البقرة:200]{ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} أي اذكروه في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا وإعداد الثواب والرضوان في الآخرة ، وإن ذلك جزاؤهم عنده ما داموا مهتدين بكتابه ، جارين على سننه في خلقه ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتسبيح والتهليل والدعاءاذكروه على كل حال تكونون عليها من قيام في المسايفة والمقارعة ، وقعود للرمي أو المصارعة ، واضطجاع من الجراح أو المخادعة ، لتقوى قلوبكم وتعلو هممكم ، وتحتقروا متاعب الدنيا ومشاقها في سبيله ، فهذا مما يرجى به الثبات والصبر ، وما يعقبهما من الفلاح والنصر ، وهذا كقوله تعالى في سورة الأنفال{ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [ الأنفال:46] .
وإذا كنا مأمورين بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب كما يعطيه السياق ، فأجدر بنا أن نؤمر بذلك في كل حال من أحوال السلم كما يعطيه الإطلاق ، على أن المؤمن في حرب دائمة وجهاد مستمر ، تارة يجاهد الأعداء ، وتارة يجاهد الأهواء ، ولذلك وصف الله المؤمنين العقلاء بقوله{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [ آل عمران:191] وأمرهم بكثرة الذكر في عدة آيات .وذكر الله أعون ما يعين على تربية النفس وإن جهل ذلك الغافلون .روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية:لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه ، إلا مغلوبا على عقله ، فقال{ فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال اه .
{ فإذا اطمأننتم} أي فإذا اطمأنت أنفسكم بالأمن وزال خوفكم من العدو{ فأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها مقومة تامة الأركان والحدود والآداب ، لا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم في حال من أحوال الخوف ، ولا من ركعاتها ونظام جماعتها كما أذن لكم في حال أخرى منها ، وقيل إن المراد بالاطمئنان الاستقرار في دار الإقامة بعد انتهاء السفر لأنه مظنته .وإذا كان هذا الحكم مقابلا لما تقدم من حكم القصر من الصلاة إذا عرض الخوف ، ومن كيفية صلاة الخوف ، فالمراد بالاطمئنان فيه ما يقابل السفر والخوف جميعا ، كما أن المراد بإقامة الصلاة ما يقابل القصر منها بنوعيه:القصر من هيئتها وحدودها والقصر من عدد ركعاتها ، وذلك أن السفر تقابله الإقامة ولم يقل فإذا أقمتم ، والخوف يقابله الأمن كما قال في آية أخرى{ وآمنهم من خوف} [ قريش:4] ولم يقل هنا فإذا أمنتم ، ومعنى الاطمئنان السكون بعد اضطراب وانزعاج فهو يقابل كلا من الخوف والسفر مجتمعين ومنفردين إذ يصدق على من زال خوفه في سفره أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان ، كما يصدق على من انتهى سفره واستقر في وطنه أنه اطمأن نوعا من الاطمئنان .
وهذا المعنى يلتئم مع قول من قال إن الآيتين السابقتين وردتا في صلاة الخوف لا صلاة السفر سواء منهم من قال إن صلاة السفر قد ثبت القصر فيها بالسنة المتواترة ومن قال إنها شرعت ركعتين ركعتين إلا المغرب فقط فإنها ثلاث ، ومع قول من قال إنهما جامعتان لصلاة السفر بقصر الرباعية فيه ولصلاة الخوف بأنواعها ، ومنها ما تكون فريضة المأموم فيها ركعة واحدة ومنها ما يكون بالإيماء ، سواء منهم من تأول في اشتراط الخوف فلم يجعل له مفهوما أو جعل مفهومه منسوخا ، ومن فصل فجعل شرط السفر خاصا بقصر الرباعية إلى ثنتين وشرط الخوف خاصا بقصرها إلى ركعة واحدة ، أو القصر من هيئتها وأركانها .
وذهب الزمخشري إلى أن الآية بمعنى آية البقرة في صلاة الخوف فجعل قضاء الصلاة فيها عبارة عن أدائها ، والذكر بمعنى الصلاة ، والمعنى فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فصلوا قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا جاثين على الركب مرامين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح .وفسر الاطمئنان بالأمن وإقامة الصلاة بعده بقضاء ما صلّي بهذه الكيفية أي القضاء المصطلح عليه في الفقه وهو إعادة الصلاة بعد فوات وقتها .وجعل الآية بهذا حجة للشافعي في إيجابه الصلاة على المسافر في حال القتال في المعركة كيفما اتفق ثم قضائها في وقت الأمن خلافا لأبي حنيفة الذي يجيز ترك الصلاة في حال القتال وتأخيرها إلى أن يطمئن .وقد خرج الزمخشري بهذا عن الظاهر المتبادر من استعمال لفظي القضاء وإقامة الصلاة في القرآن ، وهو الدقيق في فهم اللغة وتفسير أكثر الآيات بما يفصح عنه صميمها المحض ، وأسلوبها الغض ، فسبحان المنزه عن الذهول والسهو .
{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} هذا تذييل في تعليل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف ولو مع القصر منها ، أي إن الصلاة كانت في حكم الله ومقتضى حكمته في هداية عباده كتابا أي فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب في اللوح أو الطرس ، موقوتا أي منجّما في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان ، وإن أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة ، وسنبين ذلك في بحث حكمة التوقيت .روى ابن جرير عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج ، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير"موقوتا "منجما كلما مضى نجم جاء نجم ( قال ) يقول كلما مضى وقت جاء وقت آخر اه يقال وقت العمل يقته ( كوعده يعده ) ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدي فيه ، ويقال أقته أيضا بالهمزة بدلا من الواو كما يقال وكدت الشيء توكيدا وأكدته تأكيدا .
حكمة توقيت الصلاة
التشكيك شنشنة لأهل الجدل والمراء من دعاة الملل ، ومتعصبي مقلدة المذاهب والنحل ، وناهيك بمن يتخذونه صناعة وحرفة كدعاة النصرانية الذين عرفناهم في بلادنا ، وقد صار بعض شبهاتهم على الإسلام يروح في سوق المتفرنجين ، فيما يوافق أهواءهم من التفصي من عقل الدين ، ومن أغرب ذلك اعتراضهم على توقيت الصلاة وزعمهم أنه عبارة عن جعلها رسوما صورية ، وعادات بدنية ، وأن المعقول أن يوكل كل هذا إلى اختيار المؤمن فيذكر ربه ويناجيه عندما يجد فراغا تسلم به الصلاة من الشواغل ، ولا توجد قاعدة من قواعد الشرائع أو القوانين ، ولا نظرية من نظريات العلم والفلسفة ، ولا مسألة من مسائل الاجتماع والآداب ، إلا ويمكن الجدال فيها ، والمراء في نفعها أو ضرها .وقد سئلت عن هذه المسألة في شعبان سنة1328 وأنا في القسطنطينية فأجبت عنها جوابا وجيزا مستعجلا نشر في ( ص579 ) من مجلد المنار الثالث عشر .وهذا نص السؤال وقد ورد مع أسئلة أخرى:
"إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق وترقية النفوس ، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد ، فكيف يعقلوالناس على ما ترىأن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت هي بإخلاص عند كل المسلمين ؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين والمبني على الفضيلة فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم ؟ وإلا فما هي الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيق للعبادة ، بل اتباعا للمواعيد ، واحتراما للتقاليد ؟ ".
وهذا هو الجواب:
الجواب عن هذا يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقد أنه الحق وفيه الفائدة والخير ، بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه ، وتهذيب نفسه ، وشكر ربه وذكره ، وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم ، ولكن تقتضي الاستحباب ، وربما انتقدوا أيضا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناء على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها ، والعقل يحدد ذلك ويوقته ! ! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع ، وإن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس ، وكلا الحسبانين خطأ فهم قد تربّوا على أعمال من الطهارة ( النظافة ) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح ( التواليت ) وهو مثل الوضوء ، أو الغسل العام ، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جليّ .
إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ولذلك ترى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ ، فتارة تكون نظيفة ، وتارة تكون غير نظيفة ، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم وقت معين وإن لم يلم بها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفة دائما .فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان أو الفراش أو البساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء ، فالتربية التجريبية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة ليكون التنظيف خلقا وعادة لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها ، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل .وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررا في النفس محتما لا هوادة فيه .وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر أنه يوجد إلى الآن في أوربة أناس لا يغتسلون مطلقا إننا نحن الإنكليز أكثر الأوروبيين استحماما وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام عن أهل الهند ثم سبقنا جميع الأمم فيها .فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء .
واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبة موقوتة مفروضة بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم .
إذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم ، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم ، وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع الشر ، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل ، أي تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته ، وفضله ورحمته ، وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال .ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء ، فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له ، أي حبه للكمال المطلق ، وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص ، وترغب في الخير والفضل ، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء ما لم يكن فرضا معينا وكتابا موقوتا ، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس ( وهو الصلاة ) تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها ، ومن قصر في هذا القدر القليل من الذكر الموزع على هذه الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ونفسه ، ويغرق في بحر من الغفلة ، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد ، ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه ، وهو الذي استحسنه السائل .وجملة القول أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة لجميع أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير في الخير ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي يرونها أوفق بحالهم .
وإذا راجعت تفسير{ حافظوا على الصلوات} [ البقرة:238] في الجزء الثاني في تفسيرنا هذا تجد بيان ذلك واضحا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا واظب المؤمن عليها ، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم .