/م105
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} أي إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام فاحكم به{ ولا تكن للخائنين خصيما} تخاصم عنهم وتناضل دونهم ، وهو طعمه وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البرئ ، فهو كقوله تعالى في السورة الآتية{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [ المائدة:49] فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا ، أو مسلما حنيفيا .قال شيخ المفسرين ابن جرير{ بما أراك الله} يعني بما أنزل الله إليك من كتابه{ ولا تكن للخائنين خصيما} يقول ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه "اه وتسمية إعلامه تعالى لنبيه بالأحكام إراءة يشعر بأن علمه ( صلى الله عليه وسلم ) بها يقيني كالعلم بما يراه بعينه في الجلاء والوضوح .
وقال الأستاذ الإمام:هذه الجملة مستأنفة فعطفها على ما قبلها ليس من قبيل عطف المفرد على المفرد المشارك له في الحكم بل من قبيل عطف الجملة الابتدائية على جملة قبلها لارتباطها بالمعنى العام ، والمعنى ولا تتهاون بتحري الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة صلابتهم في الخصومة لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم ، وهذا الخطاب ليس خاصا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو عام لكل من يحكم بين الناس بما أنزل الله كما أمر الله .أقول ويؤيد قول الأستاذ الإمام حديث أم سلمة المتفق عليه في الصحيحين والسنن ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ){[591]} .
ومن مباحث الأصول في هذه الآية مسألة حكمه صلى الله عليه وسلم بالوحي فقط أو بالوحي تارة وبالاجتهاد أخرى .وقد تقدم أن قوله تعالى:{ أراك الله} معناه أعلمك علما يقينيا كالرؤية في القوة والظهور وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم صلى الله عليه وسلم منه مراد الله فهما قطعيا .وروي أن عمر ( رضي الله عنه ) كان يقول:لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وأما أحدنا فرأيه يكون ظنا لا علما .ذكره الرازي ثم قال:
"إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون:هذه الآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي والنص "ثم فرع عن ذلك أن الاجتهاد ما كان جائزا له وإنما يجب عليه الحكم بالنص ، وذكر أن الأمر باتباعه يقتضي تحريم القياس وعدم جوازه لولا أن أجيب عن ذلك بأن القياس ثبت بالنص أيضا .
وقال الإمام سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في كتاب ( الإشارات الإلهية ، إلى مباحث الأصولية ):{ لتحكم بين الناس بما أراك الله} يحتمل أن المراد بما نصه لك في الكتاب ويحتمل أن المراد بما أراكه بواسطة نظرك واجتهادك في أحكام الكتاب وأدلته وفيه على هذا دليل على أنه عليه السلام كان يجتهد فيما لا نص عنده فيه من الحوادث وهي مسألة خلاف في أصول الفقه .
"حجة من أجاز هذه الآية وأن الاجتهاد في الأحكام منصب كمال ، فلا ينبغي أن يفوته عليه السلام ، وقد دل على وقوعه منه قوله عليه السلام ( لو قلت نعم لوجب{[592]}ولو سمعت شعره قبل قتله لم أقتله ) في قضيتين مشهورتين ".
"حجة المانع{ وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى} [ النجم:4 ،3] ولأنه قادر على يقين الوحي والاجتهاد لا يفيد اليقين لجوازه في حقه والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء ".
"ثم على القول الأول وهو أن الاجتهاد جائز له هل يقع منه الخطأ فيه أم لا ؟ فيه قولان للأصوليين أحدهما لا لعصمته .والثاني نعم بشرط أن لا يقر عليه استدلالا بنحو{ عفا الله عنك لم أذنت لهم} [ التوبة:9]{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} [ الأنفال:67] ونحو ذلك ".
"ويتعلق بهذا مسألة التفويض وهو أنه هل يجوز أن يفوض الله عز وجل إلى نبي حكم الأمة بأن يقول أحكم بينهم باجتهادك وما حكمت به فهو حق ، أو وأنت لا تحكم إلا بالحق ؟ فيه قولان أقربهما الجواز وهو قول موسى بن عمران من الأصوليين لأنه مضمون له إصابة الحق .وكل مضمون له ذلك جاز له الحكم أو يقال هذا التفويض لا محذور فيه وكل ما كان كذلك كان جائزا "اه .كلام الطوفي .
أقول:الآية في الحكم بكتاب الله لا في الاجتهاد ولكنها لا تدل على منع الاجتهاد ، ولا عليه أيضا{ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} لأن هذا في القرآن خاصة وإلا كان كل كلامه عليه الصلاة والسلام وحيا وقد ورد أن الوحي كان ينقطع أياما متعددة وأنه كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي كما كان يسأل أحيانا فيجيب من غير انتظار للوحي .