{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} التفات إلى الخطاب لزيادة الحث على القتال الذي لا بد منه لكونه في سبيل الحق ، أي وماذا ثبت لكم من الأعذار في حال ترك القتال حتى تتركوه ؟ أي لا عذر لكم ولا مانع يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله ، لإقامة التوحيد مقام الشرك ، وإحلال الخير محل الشر ، ووضع العدل والرحمة ، في موضع الظلم والقسوة:{ والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} أي وفي سبيل المستضعفين ، أو وأخص من سبيل الله إنقاذ المستضعفين ، من ظلم الأقوياء الجبارين ، وهم إخوانكم في الدين ، وقد استذلهم أهل مكة ونالوا منهم بالعذاب والقهر ، ومنعوهم من الهجرة ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم في ملتهم .
قال الأستاذ الإمام:الخطاب لضعفاء الإيمان من المسلمين ، لا للمنافقين ، والمستضعفون هم المؤمنون المحصورون في مكة يضطهدهم المشركون ويظلمونهم وقد جعل لهم سبيلا خاصا عطفه على سبيل الله مع أنه داخل فيه كما علم من تفسيرنا له ، والنكتة فيه إثارة النخوة ، وهز الأريحية الطبيعية ، وإيقاظ شعور الأنفة والرحمة ، ولذلك مثل حالهم ، بما يدعو إلى نصرتهم ، فقال:{ الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} أقول بين أنهم فقدوا من قومهم لأجل دينهم كل عون ونصير ، وحرموا كل مغيث وظهير ، فهم لتقطع أسباب الرجاء بهم ، يستغيثون ربهم ، ويدعونه ليفرج كربهم ، ويخرجهم من تلك القرية وهي وطنهم ، لظلم أهلها لهم ، ويسخر لهم بعنايته الخاصة من يتولى أمرهم ، وينصرهم على من ظلمهم ، ليهاجروا إليكم ، ويتصلوا بكم ، فإن رابطة الإيمان ، أقوى من روابط الأنساب والأوطان ، ( وإن جهل ذلك في هذا الزمان من لا حظ لهم من الإسلام ) فليكن كل منكم وليا لهم ونصيرا .وقد بينا بعض ما كان عليه مشركوا مكة من ظلم المسلمين وتعذيبهم ، ليردوهم عن دينهم ، في تفسير{ والفتنة أشد من القتل} [ البقرة:191] من سورة البقرة حتى كان ذلك سبب الهجرة وما كل أحد قدر على الهجرة فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه ( صلى الله عليه وسلم ) هاجرا ليلا ولو ظفروا بهما لقتلوهما إن استطاعوا وكانوا يصدون سائر المسلمين عن الهجرة ، ويعذبون مريدها عذابا نكرا ، وما كان سبب شرع القتال إلا عدم حرية الدين ، وظلم المشركين للمسلمين ، ومع هذا كله ، وما أفاضت به الآيات من بيانه ، يقول الجاهلون والمتجاهلون:إن الإسلام نشر بالسيف والقوة ، فأين كانت القوة من أولئك المستضعفين ؟ .
القتال في نفسه أمر قبيح ولا يجيز العقل السليم ارتكاب القبيح إلا لإزالة شر أقبح منه ، والأمور بمقاصدها وغاياتها ، ولذلك بين القرآن في عدة مواضع حكمة القتال وكونه للضرورة وإزالة المفسدة ، وإدالة المصلحة ، ولم يكتف هنا ببيان ما في هذه الآية من كون القتال المأمور به مقيدا في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل ، وإنقاذ المستضعفين المظلومين من الظلم ، حتى أكده بإعادة ذكره ، مع مقابلته بضده ، وهو ما يقاتل الكفار لأجله ، فقال:{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} .
ومن مباحث اللفظ في الآية الثانية تذكير صفة اللفظ المؤنث في قوله:{ القرية الظالم أهلها} لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا أجري على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه ، فالظالم أهلها هنا كقولك التي يظلم أهلها .
/خ76