{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا 77 أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا78 ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا79} .
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة .فقال:( أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ) فلما حوله الله إلى المدينة أمرهم بالقتال فكفوا ، فأنزل الله:{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} الآية{[547]} ذكره السيوطي في لباب النقول .ورواه ابن جرير في تفسيره وعنده روايات أخرى أنها في أناس من الصحابة على الإبهام .
قال الأستاذ الإمام:إنني أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها لأنني أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به ، وهذه الآية متصلة بما قبلها فإن الله تعالى أمر بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم وأمرهم بما أمرهم من القتال في سبيله وإنقاذ المستضعفين ، ثم ذكر بعد ذلك شأنا آخر من شؤونهم وذلك أن المسلمين كانوا قبل الإسلام في تخاصم وتلاحم وحروب مسحرة مستمرة ولا سيما الأوس والخزرج فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بالإسلام وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .أمرهم الإسلام بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه عليهم فكرهه الضعفاء منهم .
قال تعالى:{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الاستفهام للتعجب منهم إذ أمرهم الله تعالى باحترام الدماء ، وكف الأيدي عن الاعتداء ، وبإقامة الصلاة ، وبالخشوع والعبودية لله ، وتمكين الإيمان في قلوبهم ، وبإيتاء الزكاة التي تفيد مع تمكين الإيمان أشد أواخي التراحم بينهم ، فأحبوا أن يكتب الله عليهم القتال ليجروا على ما تعودوا ، فلما كتبه عليهم للدفاع عن بيضتهم ، وحماية حقيقتهم ، كرهه الضعفاء منهم ، وكان عليهم أن يفقهوا من الأمر بكف الأيدي أن الله تعالى لا يحب سفك الدماء ، وأنه ما كتب القتال إلا لضرورة دفاع المبطلين المغيرين على الحق وأهله لأنهم خالفوا أباطيلهم ، واتبعوا الحق من ربهم ، فيريدون أن ينكلوا بهم ، أو يرجعوا عن حقهم ، فأين محل الاستنكار ، في مثل هذه الحال ؟ وهؤلاء هم ضعفاء المسلمين الذين ذكر أنهم يبطئون عن القتال ولذلك قال:{ إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} و "أو "هنا بمعنى"بل "أي إنهم يخشون الناس بالقعود عن قتالهم على ما فيه من مخالفة أمر الله تعالى ، ولما كان من شأن الذي يساوي بين اثنين في الخشية أن يميل إلى هذا تارة وإلى الآخر تارة ، وكان هؤلاء قد رجحوا بترك القتال خشية الناس مطلقا قال:"أو أشد خشية "أي بل أشد خشية .
أقول:استنكر الأستاذ نزول الآية في بعض كبار الصحابة المشهود لهم بالجنة وما استحقوها إلا بقوة الإيمان ، والعمل والإذعان ، وجعلها في المبطئين على الوجه الذي اختاره فيهم وهو أنهم ضعاف الإيمان ( والوجه الآخر أنهم المنافقون كما تقدم ) فكيف تصدق رواية تجعل عبد الرحمن بن عوف منهم ؟ ؟ .
وقد روى ابن جرير عن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت هي وآيات بعدها في اليهود ، وروي عن ابن عباس في ذلك أنه قال في قوله تعالى:{ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال}:نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم اه أي أن يكونوا مثل اليهود في ذلك .وإذا صح هذا فالمراد بهوالله أعلمالاعتبار بما جاء في سورة البقرة من قوله:{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل}إلى قوله{ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} [ البقرة:246] .
والظاهر أن الآية في جماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء ، ولا شك أن الإسلام كلفهم مخالفة عادتهم في الغزو والقتال لأجل الثأر ، ولأجل الحمية والكسب ، وأمرهم بكف أيديهم عن الاعتداء ، وأمرهم بالصلاة والزكاة ، وناهيك بما فيهما من الرحمة والعطف ، حتى خمدت من نفوس أكثرهم تلك الحمية الجاهلية ، وحل محلها أشرف العواطف الإنسانية ، وكان منهم من يتمنى لو يفرض عليهم القتال ، ولا يبعد أن يكون عبد الرحمن بن عوف وبعض السابقين رأوا تركه ذلا وطلبوا الأذن به ، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا هم الذين أنكروه بعد ذلك خشية من الناس بل ذلك فريق آخر من غير الصادقين ، على أنه لما فرض عليهم القتال لما تقدم ذكره من الحكم والأسباب كان كرها لجمهور المسلمين كما سبق بيان ذلك في تفسير{ كتب عليهم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [ البقرة:216] ولكن أهل العزم واليقين أطاعوا وباعوا أنفسهم لله عز وجل فكان الفرق بين قتالهم في الجاهلية وقتالهم في الإسلام عظيما .
وأما المنافقون ومرضى القلوب فكانوا قد أنسوا وسكنوا إلى ما جاء به الإسلام من ترك القتال وكف الأيدي فنال منهم الجبن ، وأحبوا الحياة الدنيا ، وكرهوا الموت لأجلها ، وليس هذا من شأن الإيمان الراسخ ، فظهر عليهم أثر الخشية والخوف من الأعداء حتى رجحوه على الخشية من الله عز وجل وسهل عليهم مخالفته بالقعود عن القتال وهو يقول:{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران:175] واستنكروا فرض القتال وأحبوا لو تأخر إلى أجل .
{ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب} أي هلا أخرتنا إلى أن نموت حتف أنوفنا بأجلنا القريب ، هكذا فسره ابن جريج ، وقال غيره المراد بالأجل القريب الزمن الذي يقوون فيه ويستعدون للقتال بمثل ما عند أعدائهم ، ويحتمل أن لا يكونوا قصدوا أجلا معينا معلوما .وإنما ذكروا ذلك لمحض الهرب والتفضي من القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا في أمر:أمهلني قليلا ، أنظرني إلى أجل قريب ، وقد أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرد عليهم بقوله:
{ قل متاع الدنيا قليل} أي إن علة استنكارهم للقتال وطلبكم الإنظار فيه إنما هي خشية الموت والرغبة في متاع الدنيا ولذاتها وكل ما يتمتع به في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة لأنه محدود وفان:{ والآخرة خير لمن اتقى} لأن متاعها كثير وباق لا نفاد له ولا زوال ، وإنما يناله من اتقى الأسباب التي تدنس النفس بالشرك وبالأخلاق الذميمة كالجبن والقعود عن نصر الحق على الباطل ، والخير على الشر ، وإذا كانت الآخرة خيرا للمتقين ، فهي شر ووبال على المجرمين ، فحاسبوا أنفسكم ، واعلموا أنكم مجزيون هنالك على أعمالكم{ ولا تظلمون فتيلا} أي ولا تنقصون من الجزاء الذي تستحقونه بأثر أعمالكم في أنفسكم مقدار فتيل ، وهو ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط أو ما يفتل بالأصابع من الوسخ على الجلد أو من الخيوط ، يضرب هذا مثلا في القلة والحقارة .وقيل لا تنقصون أدنى شيء من آجالكم ، قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي"يظلمون "على الغيبة لتقدمها الباقون"تظلمون "بالخطاب .
/خ79