ثم جاء بما يذهب بأعذارهم ، وينفخ روح الشجاعة والإقدام في المستعدين منهم ، فقال:{ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} .أي أن الموت حتم لا مفر منه ولا مهرب فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان كنتم ولو تحصنتم منه في البروج المشيدة ، وهي القصور العالية التي يسكنها الملوك والأمراء فيعز الارتقاء إليها بدون إذنهم ، أو الحصون المنيعة التي تعتصم فيها حامية الجند .شيد البناء يشيده علاه وأحكم بناءه ، وأصله أن يبنيه بالشيد وهو بالكسر كل ما يطلي به الحائط كالجص والبلاط ، يقال شاد البناء إذا جصصه ، قال في اللسان:وكل ما أحكم من البناء فقد شيد وتشييد البناء إحكامه ورفعه .أي لأن في التفعيل معنى من المبالغة والكثرة في الشيء ، وأجاز الراغب أن يكون المراد بالبروج بروج النجم ويكون استعمال لفظ المشيدة فيها على سبيل الاستعارة وتكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو نال أسباب السماء بسلم{[548]}
وإذا كان الموت لا مفر منه ولا عاصم ، وكان المرء يخوض معامع القتال فيصاب ولا يموت ، ويخاطر بنفسه فيها أحيانا فلا يصاب بجرح ولا يقتل ، وقد يموت المعتصم في البروج والحصون اغتضارا{[549]} ، وإذا كان الإقدام على القتال هو أقوى أسباب النجاة من القتل لأن الجبناء يغرون أعداءهم بأنفسهم بعدم دفاعهم عنها ، وإذا كان الاستعداد للقتال والإقدام فيه لأجل الدفاع عن الحق وحماية الحقيقة ومنع الباطل أن يسود والشر أن يفشو موجبا لمرضاة الله ولسعادة الآخرة ، فما هو عذركم أيها القاعدون المبطئون ؟ .
وطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم
فلماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم ، وهذا ليس من شأن العقلاء والمؤمنين ؟ .
كان من مرض قلوب هؤلاء أن كرهوا القتال وجبنوا عنه وخافوا الناس وتمنوا بذلك طول البقاء ، فكان هذا صدعا في دينهم وعقولهم قامت به عليهم الحجة .ثم ذكر شأنا آخر من شؤونهم يشبهه في الدلالة على مرض القلب والعقل فقال:
{ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} الحسنة ما يحسن عند صاحبه كالرخاء والخصب والظفر والغنيمة ، كانوا يضيفون الحسنة إلى الله تعالى لا بشعور التوحيد الخالص بل غرورا بأنفسهم ، وزعما منهم أن الله أكرمهم بها عناية بهم ، وهروبا من الإقرار بأن شيئا من ذلك أثر ما جاءهم به الرسول من الهداية ، وما حاطهم به من التربية والرعاية ، ولذلك كانوا ينسبون إليه السيئة وهو صلى الله عليه وسلم بريء من أسبابها ، دع إيجادها وإيقاعها ، وذلك قولهم:{ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} والسيئة ما يسوء صاحبه كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل ، كان المنافقون والكفار من اليهود وغيرهم إذا أصاب الناس في المدينة سيئة بعد الهجرة يقولون هذا من شؤم محمد{ قل كل من عند الله} قل أيها الرسول إن كلا من الحسنة والسيئة من عند الله لوقوعها في ملكه على حسب سننه في نظام الأسباب والمسببات .
{ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} أي فما بال هؤلاء القوم وماذا أصاب عقولهم حال كونها بمعزل عن الغوص في أعماق الحديث وفهم مقاصده وأسراره فهم لا يعقلون حقيقة حديث يلقونه ولا حقيقة حديث يلقى إليهم قط وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى على ظاهر اللفظ بادي الرأي ، والفقه معرفة مراد صاحب الحديث من قوله وحكمته فيه من العلة الباعثة عليه والغائبة له .وإذا كانوا قد فقدوا هذا الفقه وحرموه من كل حديث ، فأجدر بهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن وحي ربه في حقيقة التوحيد ونظام الاجتماع وسنن الله في الأسباب والمسببات ، فهذه المعارف العالية لا تنال إلا بفضل الروية وذكاء العقل وطول التدبر ، ومن نالها لا يقول بأن سيئة تقع بشؤم أحد ، وإنما يسند كل شيء إلى السبب ، أو إلى واضع الأسباب والسنن ، ولكل مقام مقال .
وفيه أنه يجب على العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية ، فمن اعتاد الأخذ بما يطفو من هذه الظواهر دون ما رسب في أعماق الكلام وما تغلغل في أنحائه وأحنائه يبقى جاهلا غبيا طول عمره .
/خ79