بعد أن بين حقيقة الأمر في السيئات والحسنات بالنسبة إلى موضوعها وسنن الاجتماع فيها وأنها كلها تضاف بهذا الاعتبار إلى الله عز وجل أراد أن يبين حقيقة الأمر فيها من وجه آخر فقال:{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} .قيل إن الخطاب هنا لكل من يتوجه إليه من المكلفين ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل من أرسل إليهم ، والمعنى مهما يصبك من حسنة فهي من محض فضل الله الذي سخر لك المنافع التي تحسن عندك لا باستحقاق سبق لك عنده وإلا فبماذا استحققت أن يسخر لك الهواء النقي الذي يطهر دمك ويحفظ حياتك ، والماء العذب الذي يمد حياتك وحياة كل الأحياء التي تنتفع بها ، وهذه الأزواج الكثيرة من نبات الأرض وحيواناتها ، وغير ذلك من مواد الغذاء ، وأسباب الراحة والهناء ، ومهما يصبك من سيئة فمن نفسك فإنك أوتيت قدرة على العمل واختيارا في تقدير الباعث الفطري عليه من درء المضار وجلب المنافع فصرت تعمل باجتهادك في ترجيح بعض الأسباب والمقاصد على بعض فتخطئ فتقع فيما يسوءك ، فلا أنت تسير على سنن الفطرة وتتحرى جادتها ، ولا أنت تحيط علما بالسنن والأسباب وضبط الهوى والإرادة في اختيار الحسن منها ، وإنما ترجح بعضها على بعض في حين دون حين بالهوى أو قبل المعرفة التامة بالنافع والضار منها فتقع فيما يسوءك ولولا ذلك لما علمت السيئات .
وتفصيل القول أن هنا حقيقتين متفقتين:
إحداهما:إن كل شيء من عند الله بمعنى أنه خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار ، وأنه واضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان ، وكل شيء حسن بهذا الاعتبار ، لأنه مظهر الإبداع والنظام .
والثانية:إن الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب وتعرف السنن ، فالسوء معنى يعرض للأشياء بتصرف الإنسان وباعتبار أنها تسوءه وليس ذاتيا لها ولذلك يسند إلى الإنسان .
مثال ذلك المرض فهو من الأمور التي تسوء الإنسان وهو إنما يصيبه بتقصيره في السير على سنة الفطرة في الغذاء والعمل فيجيء من تخمة قادته إليها الشهوة ، أو من إفراط في التعب أو في الراحة ، أو من عدم اتقاء أسباب الضرر كتعريض نفسه للبرد القارس أو الحر الشديد ، وقس على ذلك غيره من أسباب الأمراض التي ترجع كلها إلى الجهل بالأسباب وسوء الاختيار في الترجيح .والأمراض الموروثة من جناية الإنسان على الإنسان فهي من نفسه أيضا لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هي من محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه ، فوالداه يجنيان عليه قبل وجوده بتعريض أنفسهما للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة كما يجنيان عليه بعده بتعريضه هو للمرض في صغره بعدم وقايته من أسبابه ، في الوقت الذي يكون اختيارهما له قائما مقام اختياره لنفسه .
وأضرب لهم مثلا خاصا غزوة أحد أصابت المسلمين فيها سيئة كان سببها تقصيرهم في الوقوف عند أسباب الفوز والظفر بعصيان قائد عسكرهم ورسولهم ( صلى الله عليه وسلم ) وترك الرماة منهم موقعهم الذي أقامهم فيه للنضال وكان ذلك لخطأ في الاجتهاد سببه الطمع في الغنيمة كما تقدم في تفسير سورة آل عمران من الجزء الرابع .
فإن قيل:إن جميع الأشياء حسنها وسيئها تسند إلى الله عز وجل ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لموادها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها ، ويسند إلى الإنسان منها كل ما له فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات أو السيئات ، وقد مضى بهذا عرف الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة بمثل قوله تعالى:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [ الأنعام:16] فلماذا جعل هنا إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا ؟ .
فالجواب عن هذا:إن ما ذكر في السؤال حق وما في الآية حق ولكل مقام مقال ، والمقام الذي سيقت الآية له هو بيان أمرين أحدهما:نفي الشؤم والتطير وإبطالها ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يصيبهم بشؤم أحد يكون فيهم ، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون في الجاهلية ولا يزال التطير والتشاؤم فاشيا في الجاهلين من جميع الشعوب وهو من الخرافات التي يردها العقل وقد أبطلها دين الفطرة .قال تعالى في آل فرعون{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} [ الأنفال:130] فقد جعل التطير من الجهل وفقد العلم بالحقائق .
ثانيهما:أنه ينبغي لمن أصابته سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه ولا يكتفي بعدم إسنادها إلى شؤم غيره من ليس له فيها عمل ولا كسب لأن السيئة تصيب الإنسان بما تقدم شرحه آنفا من تقصيره وخروجه بجهله أو هواه عن سنة الله في التماس المنفعة من أبوابها ، واتقاء المضار باتقاء أسبابها ، لأن الأصل في نظام الفطرة البشرية هو ما يجده الإنسان في نفسه من ترجيح الخير لها على الشر ، والنفع على الضر ، وكون كل قوة من قواه نافعة له إذا أحسن استعمالها ، وليس في أصل الفطرة سيئة قط ، وإنما الإنسان يقع في الضرر غالبا بسوء الاستعمال وطلب ما لا تقتضيه الفطرة لولا جنايته عليها باجتهاده ، كالإفراط في اللذات والتعب تنفر منه الفطرة فيحتال الإنسان عليها ويحملها ما لا تحمله بطبعها لولا ظلمه لها كاستعمال الأدوية لإثارة شهوة الطعام والوقاع وعدم وقوفه فيهما عند حد الداعية الطبيعة كأن لا يأكل إلا إذا جاع من نفسه ، ولا يملأ بطنه من الطعام بما يحمله على ذلك من الأدوية المقوية والتوابل المحرضة ، فمصائب الإنسان من ظلمه وكسبه ( راجع ج4 ) .
لب هذه الحقيقة الثانية التي علمنا الله إياها وربانا بها هو أن سننه تعالى في فطرة الإنسان ، كسننه في فطرة سائر الحيوان والنبات ،{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [ الملك:3] كلها مصادر للحسنات ، ليس فيها شيء سيء بطبعه ، ولكن الإنسان فضل على غيره بما أوتي من الاستعداد للعلم ، ومن الإرادة والاختيار في العمل ، فإذا أحكم العلم وأحسن الاختيار مهتديا بسنن الفطرة وأحكام الشريعة وهي كلها من عند الله ومن محض فضله ورحمته كان مغمورا في الحسنات والخيرات ، وإذا قصر في العلم وأساء الاختيار في استعمال قواه وأعضائه في غير ما يقتضيه نظام الفطرة وحاجة الطبيعة وقع في الأمور التي تسوؤه ، فيجب عليه أن يرجع على نفسه بالمحاسبة والمعاتبة كلما أصابته سيئة ، ليعتبر بها ويزداد علما وكمالا ، فهذه الآية أصل من أصول علم الاجتماع وعلم النفس فيها شفاء للناس من أوهام الوثنية ، وتثبيت في مقام الإنسانية .
ثم قال تعالى:{ وأرسلناك للناس رسولا} وما على الرسول إلا البلاغ المبين وأما الحسنات والسيئات فهي من الله عز وجل خلقا لموادها وأسبابها وتقديرا لتلك الأسباب بجعلها على قدر المسببات ، ومنها أن للإنسان عملا في هذه الأسباب فإن أحسن وأصاب كانت له الحسنة بفضل الله في ذلك وإن أخطأ وأساء كانت له السيئة بخروجه عن تلك السنن وتقصيره في تلك الأسباب ، وليس للرسول دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات لأنه أرسل للتبليغ والهداية لا للتصرف في نظام الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها{ ولن تجد لسنة الله تبديلا} [ الفتح:23] ، و{ لن تجد لسنة الله تحويلا} [ فاطر:43] فزعم أولئك الجاهلين أن السيئة تصيبهم من عنده أو بسببه ، وما تخيلوا من شؤمه ، لا حجة عليه من العقل ، وهو مخالف لما بين من وظيفة الرسول في النقل ، على أن هدايته جامعة لأسباب النعم فهي من يمنه لا من خلقه .
{ وكفى بالله شهيدا} على صحة رسالتك للناس كافة بتأييدك وآياته ، وتصديقك فيما أنذرت به المعرضين ، وبشرت به المؤمنين ، أو شهيدا بأنك لم ترسل إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ، لا مسيطرا عليهم ، ولا جبارا لهم ، ولا مغيرا لنظام الاجتماع فيهم ، وقيل إن المراد بالشهادة هنا الشهادة على أولئك الذين قالوا تلك الأقوال المنكرة .
/خ79