/م103
فقال:
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} هذه أربعة نعوت لأربعة أنواع من محرمات الأنعام التي حرمتها الجاهلية على أنفسها:
فالبحيرة:فعيلة بمعنى مفعولة وهي الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا ، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روي عن ابن عباس ، وقيل إذا ولدت عشرة أبطن ، يفعلونه ليكون علامة على تحريم أكلها أو ركبها أو الحمل عليها ، وهو مأخوذ من مادة ( بحر ) وهو في الأصل-كما قال الراغب- »كل مكان واسع جامع للماء الكثير » ثم اشتقوا منه عدة كلمات فيها معنى السعة .
والسائبة:الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شيء ، ولا يجز صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف .فهي اسم فاعل من قولهم:ساب الفرس ونحوه ، أي ذهب على وجهه حيث شاء ، وساب الماء جرى ، فهو سائب .وقال محمد بن إسحاق هي الناقة إذا ولدت عشر إناث ليس بينهن ذكر ، وقال مجاهد:هي من الغنم مثل البحيرة من الإبل .وعن أبي روق والسدي:كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها لطواغيتهم وأوثانهم .
والوصيلة:الشاة التي تصل أنثى بأنثى في النتاج ، وقيل:هي التي وصلت أخاها ، قال الراغب:وهو أن أحدهم كان إذا ولدت له شاته ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها ، فلا يذبحون أخاها من أجلها .وعن ابن عباس:هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى استحيوها وإن كان ذكرا أو أنثى في بطن واحد استحيوها وقالوا:وصلته أخته فحرمته علينا .
والحام:اسم فاعل من الحماية ، وهو فحل الضراب أي التلقيح ، قيل إذا أتم ضراب عشرة أبطن قالوا:حمى ظهره .وتركوه لا يحملون عليه شيئا .وروي أنهم كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس تمييزا له .وقد اختلفت الروايات في تفسير هذه الألفاظ كما ترى ، وأقواها ما رواه البخاري ومسلم وغير واحد من رواة التفسير المأثور عن سعيد بن المسيب قال:
البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء .قال:قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار-كان أول من سيب السوائب »{[863]} قال ابن المسيب والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه ( أي تركوه ) للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي .وسيأتي في سورة الأنعام بقية ما يتعلق بهذا البحث ومن ابتدعه للعرب وغير شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وما ابتدعه المسلمون مما يضاهي ذلك .
أما معنى الجملة فهو أن الله تعالى لم يشرع لهم تحريم البحائر والسوائب وأخواتهما ، أي لم يجعله من أحكام الدين{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} بزعمهم أن هذه الأشياء محرمة سواء أسندوا تحريمها إلى الله تعالى ابتداء ، أو ادعاء على سبيل الاستدلال – كما حكى عنهم بقوله:{ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} [ الأنعام:148] أي ولكنه شاء ذلك منا ففعلناه فهو راض به - أم لم يسندوه إليه .أما كون إسناد تحريمه إليه بالتصريح افتراء عليه فظاهر بين ، وأما إسناده إليه ادعاء واستدلالا بالمشيئة فهو افتراء أيضا لأن دليله باطل ، فإن الله تعالى لم يمنع الكفار من الكفر والفساق من الفسق ولا أكرههم عليها بمحض المشيئة والقدرة ، بل جعل لهم اختيار الترجيح في أعمالهم ولم يجعلهم مجبورين عليها ، فعدم إجبارهم على الترك أو الفعل لا يدل على رضائه تعالى بما اختاروه لأنفسهم من كفر وفسق ، وأما كونه افتراء عليه في حال السكوت عن إسناده إليه ، فوجهه أن التحريم والتحليل من شأن رب الناس وإلههم سبحانه فليس لأحد من خلقه أن يحرم عليهم شيئا إلا بإذنه والتبليغ عنه ، فمن تجرأ على ذلك كان مدعيا بفعله هذا إما الربوبية وإما الإذن من الرب تعالى ، وكلاهما افتراء ، والفعل فيه أبلغ من القول .
{ وأكثرهم لا يعقلون ( 103 )} أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، وأن ذلك من أعمال الكفر به ، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالواسطة ، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ، ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله تعالى ، تشفع لهم عنده ، وتقربهم إليه زلفى .وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره ، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه ، وسن ورد أو حزب يضاهي به المشروع من شعائر دينه ، أو غير ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع ، يزعم أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى وينال به رضاه عز وجل ، والحق أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص عام أو خاص ، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأي ولا قياس ، ولذلك قال عز وجل:{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}