ولما كان قول النصارى في المسيح من أشد الغلو في الدين ، بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب ، وكان إيذاء اليهود له وسعيهم لقتله ، من الغلو في الجمود على تقاليد الدين الصورية ، واتباع الهوى فيه ، وكان هذا الغلو هو الحامل لهم على قتل زكريا ويحيى وشيعا قال تعالى:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} الغلو الإفراط وتجاوز الحد في الأمر – فإن كان في الدين فهو تجاوز حد الوحي المنزل إلى ما تهوى الأنفس ، كجعل الأنبياء الصالحين أربابا ينفعون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله في الأسباب والمسببات الكسبية ، واتخاذهم لأجل ذلك آلهة يعبدون فيدعون من دون الله تعالى أو مع الله تعالى ، سواء أطلق عليهم لقب الرب والإله كما فعلت النصارى أم لا .وكشرع عبادات لم يأذن بها الله ، وتحريم ما لم يحرم الله ، كالطيبات التي حرمها القسوس والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم .مبالغة في التنسك ، سواء كان ذلك لوجه ، أم كان رياء وسمعة – نهى الله تعالى أهل الكتاب الذين كانوا في عصر نزول القرآن عن هذا الغلو الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم ، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالتهم ، فذكرهم بأن الذين كانوا قبلكم قد ضلوا باتباع أهوائهم في الدين ، وعدم اتباعهم فيه سنة الرسل والنبيين ، والصالحين من الحواريين ، فكل أولئك كانوا موحدين ، ولم يكونوا مفرطين ولا مفرَّطين ، وإنما كانوا للشرك والغلو في الدين منكرين ، فهذا التثليث وهذه الطقوس الكنسية الشديدة المستحدثة من بعدهم ، ابتدعها قوم اتبعوا أهواءهم ، فضلوا بها وأضلوا بها وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم في بدعهم وضلالهم .
وأما الضلال الثاني التي ختمت به الآية فقد فسر بإعراضهم عن الإسلام ، كما فسر الضلال الأول بما كان قبل الإسلام ، فالإسلام هو سواء السبيل ، أي وسطه الذي لا غلو فيه ولا تفريط ، لتحتيمه الاتباع ، وتحريمه الابتداع والتقليد ، ويجوز أن يكون الضلال الأول ضلال الابتداع والزيادة في الدين ، والضلال الثاني جهل حقيقة الدين وجوهره ، وكونه وسطا بين أطراف مذمومة ، كالتوحيد بين الشرك والتعطيل ، واتباع الوحي بين الابتداع والتقليد ، والسخاء بين البخل والتقتير ، الخ .