/م82
فقال:
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} العداوة بغضاء يظهر أثرها في القول والعمل ، والمودة محبة يظهر أثرها في القول والعمل ، خلافا للجمهور الذين فسروها بالمحبة مطلقا .وفي كلمة ( لتجدن ) تأكيدان- لام القسم في أول الكلمة ونون التوكيد في آخرها .وفي الخطاب بها وجهان – أحدهما أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وثانيهما أنه لكل من يوجه إليه الكلام ، وفي «الناس » الذين نزل فيهم هذا التفصيل قولان – أحدهما أنهم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل ، والثاني أنه عام .
فأما صدقه على أهل العصر الأول فظاهر أتم الظهور ، ولا سيما إذا جعلنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإن أشد ما لاقى – بأبي هو وأمي – من العداوة والإيذاء قد كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها ، ومشركي العرب ولا سيما مكة وما قرب منها ، ولم ير من النصارى مثل تلك العداوة والإيذاء ، بل رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من مكة إلى الحبشة خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم ، حتى قال أكثر أهل التفسير المأثور:إن الآية نزلت فيهم أولا وبالذات ، ولا ينفي هذا القول كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .وسيأتي ما روي في ذلك في آخر تفسير الآيات .
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتب الدعوة الإسلامية إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا- فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلما لم يقبلوا لجمودهم على التقليد ، وعدم فقههم حقيقة الدين الجديد ، اكتفى بالرد الحسن .والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردا ، وإن لم يكن أكثر إلى الإسلام ميلا ، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة ، ثم لما فتحت مصر والشام ، وعرف أهلها مزية الإسلام ، دخلوا في دين الله أفواجا ، وكان القبط أسرع له قبولا .
وقد كان حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ، وكان مما قاله له بعد أن أعطاه الكتاب:إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) فانتقم به ثم انتقم منه .فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك .فقال ( المقوقس ) إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه .فقال حاطب:ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقد سواه .إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن ، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل .وكل نبي أدرك قوما فهم أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به ( أي هو الإسلام عينه ) فقال المقوقس:إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء ، والإخبار بالنجوى .وسأنظر- الخ .
ومما يشهد لما ذكرناه أيضا حديث عمرو بن العاص رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان جيفر بن الجلندي وأخيه عبد بن الجلندي ، فإن عمرا عمد أولا إلى عبد لأنه أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا ، فبلغه دعوة الإسلام ، فقال له عبد:يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك ؟ ( قال عمرو ) قلت:مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ووددت أنه كان أسلم وصدق به ، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام .قال فمتى تبعته ؟ قلت:قريبا .فسألني أين كان إسلامك ؟ قلت:عند النجاشي .وأخبرته أن النجاشي قد أسلم .قال:فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت أقروه واتبعوه .قال والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت نعم .قال انظر يا عمرو ما تقول ، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح من الكذب .قلت:ما كذبت وما نستحله في ديننا .ثم قال:ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي .قلت:بلى .قال بأي شيء علمت ذلك ، قلت:كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال:لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته .فبلغ هرقل قوله ، فقال له اليناق أخوه:اتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ، ويدين بدين غيرك دينا محدثا ؟ قال هرقل:رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به ؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع .قال:انظر ما تقول يا عمرو .قلت والله صدقتك .قال عبد:فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب .قال:ما أحسن هذا الذي يدعو إليه .لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي يضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا .اه المراد منه ( وقد أسلم الرجلان بعد ) .
فعلم من هذه الشواهد أن النصارى الذين كانوا مجاورين للحجاز كانوا في زمن البعثة أقرب مودة للمؤمنين ، وأقرب قبولا للإسلام ، وإن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه .وأن النجاشي ( أصحمة ) ملك الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا .ولكن يظهر أن الإسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته رضي الله عنه ، ولم يعن المسلمون بإقامة أحكامهم في تلك البلاد ، كما فعلوا في مصر والشام ( مثلا ) وهذا بحث تاريخي ليس من موضوعنا هنا ، ولكن ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم »{[785]} عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى أبي داود عن رجل من الصحابة وعلم عليه بالصحة .وقد رواه أبو داود بهذا اللفظ ، والنسائي بلفظه في آخر حديث طويل ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه إن الله تعالى أراه- وهو يحفر في الخندق في وقعة الأحزاب – بلاد كسرى فسئل أن يدعو الله تعالى بأن يفتحها لأمته فدعا ، ثم ذكر أن الله أراه ملك قيصر وديار الشام فسئل أن يدعو الله تعالى بأن يفتحها لهم فدعا . ثم ذكر أن الله أراه بلاد الحبشة وقال هذا الحديث قبل أن يسألوه الدعاء بفتحها .
وجملة القول أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين .وقد يظن بعض الناس أن سبب ذلك بعد النصارى عنهم ، وقرب اليهود منهم في المدينة والمشركين في مكة والمدينة معا ،ومن بلغته الدعوة إلى ترك دينه إلى دين آخر من بعيد لا يعني بعداوة أهلها وبمقاومتها كما يعني القريب الذي توجه إليه الدعوة مواجهة ومشافهة .ولذلك كان اليهود في الشام والأندلس يعطفون على المسلمين عند الفتح ويرغبون في نصرهم على نصارى الروم والقوط .ثم صار بين المسلمين والنصارى من العداوة على الملك والحروب لأجله ما هو أشد مما كان من عداوة اليهود والمشركين لسلفهم في أول الإسلام .
والقاعدة لهذا الرأي أن العداوة والمودة كانت ولم تزل أثر التنازع على المنافع والسيادة باسم الدين أو الدنيا .ولا دخل لطبيعة الدين فيها .وقد يؤيد هذا بما يثيره دعاة النصرانية في نفوس المسلمين في هذا الزمان ، وبما بين الدول الإسلامية والنصرانية من البغي والعدوان ، على أنه ليس بين اليهود والمسلمين من ذلك شيء ، ولكن قد يوجد مثله بين مسلمي الهند ومشركيها ، لتعارض مصالحهم ومنافعهم فيها ، فعلة العداوة والمودة خارجية لا دينية ولا جنسية .
هذا كلام صحيح في جملته لا تفصيله ، وينطبق على المختلفين في الدين والمتفقين فيه- فقد حارب نصارى البلقان بعضهم بعضا كما حاربوا العثمانيين ، بل أهل المذهب الواحد من النصارى يحارب الآن بعضهم بعضا كالإنجليز والألمان ، وليس هو المراد بالآية ، وإنما القرآن يبين هنا معنى أعلى منه وأعم ، لا خاصا بالتنازع .
وهو أن العلة الصحيحة لعداوة المعادين ومودة الموادين هي الحالة الروحية التي هي أثر تقاليدهم الدينية والعادية وتربيتهم الأدبية والاجتماعية ، وقد نبه القرآن إلى ذلك في بيان سبب مودة النصارى من هذه الآية .وترك سبب شدة عداوة اليهود والمشركين لأن حالتهم الروحية مبينة في القرآن أتم البيان في عدة سور ، ومن أوسعها بيانا لأحوال اليهود هذه السورة وما قبلها من السور الطوال المدنية ، وأوسعها بيانا لأحوال المشركين سورة الأنعام التي تليها وهي من السور المكية .
كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت شدة العداوة للمؤمنين .فمنها الكبر والعتو ، والبغي وحب العلو ، ومنها العصبية الجنسية ، والحمية القومية ، ومنها غلبة الحياة المادية ، ومنها الأثرة والقسوة ، وضعف عاطفة الحنان والرحمة ، وكان مشركو العرب على جاهليتهم أرق من اليهود قلوبا ، وأكثر سخاء وإيثارا ، وأشد حرية في الفكر والاستقلال .وما قدم الله ذكر اليهود في الآية إلا لإفادة أصالتهم وتمكنهم فيما وصفوا به ، وتبريزهم على مشركي العرب فيه ، وناهيك بما سبق لهم من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض ، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل .وأما ما كان من ضلعهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس فإنما كان لأجل تفيؤ ظل عدلهم ، والاستراحة من اضطهاد نصارى تلك البلاد لهم ، فهم لم يعدوا في ذلك عادتهم ، ولم يتركوا ما عرف من شنشنتهم ، وهي أنهم لا يعملون شيئا إلا لمصلحتهم .
ويمكن أن يستنبط ما تركه الله هنا من بيان سبب شدة هؤلاء وأولئك مما بينه من سبب قرب مودة النصارى بقوله عز وجل{ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 )} أي ذلك- الذي ذكر من كون النصارى أقرب مودة للذين آمنوا-بسبب أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم وتربيتهم الدينية ، ورهبانا يمثلون فيهم الزهد وترك نعيم الدنيا والخوف من الله عز وجل والانقطاع لعبادته .وإنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر لهم أنه الحق ، لأن أشهر آداب دينهم التواضع والتذلل ، وقبول كل سلطة ، والخضوع لكل حاكم ، بل من المشهور فيها الأمر بمحبة الأعداء ، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن ، فتداول هذه الوصايا ، ووجود أولئك القسيسين والرهبان ، لابد أن يؤثر في نفوس جمهور الأمة وسوادها ، فيضعف صفة الاستكبار عن قبول الحق فيها .وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا ، والرضاء بها سرا وجهارا ، وأما اليهود فإذا أظهروا الرضا بذلك اضطرارا ، أسروا الكيد أسرارا ، ومكروا مكرا كبارا .
فتلك كانت صفات الفريقين الغالبة .لا أخلاق أفراد الأمتين كافة ، ففي كل قوم خبيثون وطيبون ،{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [ الأعراف:109] ولكن شريعة اليهود نفسها تربي في نفوسهم الأثرة الجنسية لأنها خاصة بشعب إسرائيل ، وكل أحكامها ونصوصها مبنية على ذلك .
وحكمة ذلك أن المراد منها تربية أمة موحدة بين أمم الوثنية الكثيرة بعد إنقاذها من استعباد أشد أولئك الوثنيين بطشا وأضراهم بالاستبداد-وهي أمة الفراعنة- ولو أذن الله لنبي إسرائيل بعد إنجائهم من مصر إلى الأرض المقدسة أن يخالطوا الأمم التي كانت فيها ، وجعل شريعتهم عامة مبنية على قواعد المساواة بين الإسرائيليين وغيرهم –كالشريعة الإسلامية- لغلبت تعاليم أولئك الوثنيين وشرورهم على الإسرائيليين لقرب عهدهم بالتوحيد ، مع استعدادهم الوراثي لقبول تقاليد غيرهم والخضوع لهم ، ولذلك أمروا بأن لا يبقوا في الأرض المقدسة نسمة ما ممن كان فيها قبلهم .وكان موسى عليه السلام يحذرهم أشد التحذير من مفاسد الوثنيين بعده .
فإن قلت:إن هذا الإصلاح بتربية أمة واحدة على هذه الطريقة ، بمثل هذه الشريعة ، يترتب عليه مفاسد أخرى في أخلاق هذه الأمة ، ولو لم يكن من مفاسده إلا ما هو معروف من أخلاق اليهود إلى الآن ، التي كانت سبب اضطهاد الأمم لهم في كل مكان ، من حرصهم على الانتفاع من غيرهم ، وعدم نفع أحد بشيء منهم ، إلا إذا كان وسيلة لمنفعة لهم أكبر منه أو دفع ضرر ، وتجرد السواد الأعظم منهم عن إيثار أحد غريب عنهم بشيء-لكفى ، وكان شبهة عظيمة على كون دينهم ليس من عند الله تعالى:{ والله لا يحب الفساد} [ البقرة:205] .
والجواب عن هذه الشبهة سهل على المسلمين ، وبيانه:إن تلك الشريعة كانت مؤقتة لا دائمة ، فكانت في العصر الأول هي الوسيلة إلى تكوين أمة موحدة بين أمم الوثنية ، وكان المصلحون من الأنبياء صلوات الله عليهم يتعاهدون أهلها زمنا بعد زمن بالإصلاح المعنوي ، كإلهيات زبور داود وأدبيات حكم سليمان عليهما السلام ، حتى لا تغلب على القوم المادية وتفسدهم الأثرة ، ثم جاء مصلح إسرائيل الأعظم عيسى المسيح صلوات الله وسلامه عليه بنقض ما كانوا عليه من ذلك بدعوتهم إلى نقيض ما كانوا عليه ، فقابل مبالغتهم في المادية بالمبالغة في الروحانية ، ومبالغتهم في الآثرة بالمبالغة في الإيثار ( الذي تعبر عنه النصارى بإنكار الذات ) ومبالغتهم في الجمود على ظواهر الشريعة بالمبالغة في النظر إلى مقاصدها .فكره إليهم السيادة والغنى ، وذم التمتع بنعيم الدنيا ، وأمر بمحبة الأعداء ، وعدم الجزاء على الإيذاء-وكان ذلك كله تمهيدا لإكمال الله تعالى دينه بإرسال خاتم النبيين والمرسلين .محمد المبعوث رحمة للعالمين ، البارقليط روح الحق .الذي يعلمهم ويعلم غيرهم كل شيء ، فيجمع للبشر بين مصالح الروح والجسد ، ويأمر بالعدل والإحسان لا بالإحسان فقط .
فمن لم يؤثر فيهم إصلاح المسيح من اليهود ظلوا على جمودهم وأثرتهم وعصبيتهم ، وكانوا أشد عداوة لهذا النبي ومن آمن به ممن أثر فيهم ذلك الإصلاح ، وكان فيهم بقية من القسيسين والرهبان ، سواء كان أصلهم من اليهود أو غيرهم من الأقوام ، فكانوا أقرب مودة لهم ، وكانوا أسرع إلى الإيمان من غيرهم ، فصدق عليهم قوله تعالى:{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [ الأعراف:157] وما كان ذلك الإصر والأغلال إلا شدة أحكام التوراة في الطعام والشراب والأحكام المدنية والجنائية ، وشدة أحكام الإنجيل في الزهد وإذلال النفس وحرمانها .
ومما يدل على كون النصارى أقرب من اليهود إلى الإسلام بطبيعة دين كل منهما ، وفاقا لتعليل الآية الكريمة ، كثرة من يسلم من النصارى في كل زمان وقلة من يسلم من اليهود ، ولولا ضعف المسلمين في هذا الزمان ، وإعراضهم عن هداية القرآن وإهمالهم الدعوة إلى الإسلام ، وإبرازه بصورته الصحيحة للأنام- على فساد حكوماتهم وعجز رجالها في السياسة ، وتخلفهم عن مجاراة الأمم في العلم والحضارة – ولولا بلوغ دول الإفرنج النصرانية فيه أوج العزة والقوة ، وسبق أممهم في حلبة المدنية والثورة ، واستمالتهم لنصارى الشرق وجذبهم إليهم .واعتزاز هؤلاء بهم ، وتلقيهم أساليب التربية الدينية والمدنية عنهم ، وجعل الدين فيها من المقومات الجنسية للأقوام والشعوب تربى على أن تحافظ عليها كما تحافظ على لغتها ، فلا تستبدل بها غيرها وإن كانت خيرا منها- إلى غير ذلك من قوانين هذه التربية وأساليبها-ولولا ما أشرنا إليه من التنازع السياسي الدنيوي بين دولنا ودولهم ، لكانت المودة بين الفريقين أتم ، وانتشار الإسلام فيهم أعم ، لأن الإسلام إصلاح في النصرانية ، كما إن النصرانية إصلاح في اليهودية ، فاليهود الذين عادوا النصرانية ، كانوا أجدر ممن صلحوا بها بعداوة الإسلامية .ودين الله على ألسنة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد ، ولكنه جرى مع البشر على سنة الارتقاء ، إلى أن بلغ سن الكمال .
فإن قيل:إذا كنت تزعم إن سبب ما ذكره الله تعالى من كون النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين هو تعاليم دينهم وتقاليده ، وأنه لذلك يجب أن يكون عاما فيهم ، وإن نزل في طائفة منهم ، إذا انتفت الموانع-فبماذا تجيب عن الحرب الصليبية التي أوقد النصارى نارها باسم الدين ، ولم يلق المسلمون مثلها من اليهود ولا المشركين .ويقرب من ذلك سائر الحروب بين المسلمين والنصارى ؟- فإن عندي جوابين عن هذا السؤال أو جوابا من وجهين:
أحدهما:إن ما كان عليه المسلمون من الدين القريب من النصرانية بل الذي هو إصلاح فيها وإكمال لها كما قررنا ، لم يكن معروفا عند أولئك الصليبيين ، بل كان للمسلمين صورة في مخيلاتهم غير صورتهم الصحيحة التي طبعها في نفوسهم الإسلام-صورة وثنية وحشية مشوهة أقبح التشويه ، منعكسة عن الكتب والرسائل والخطب التي كان ينشئها بطرس الراهب وأمثاله .ولو وصف للمسلمين يومئذ قوم بما وصفهم به مثيرو الحرب الصليبية ودعوا إلى قتالهم لنفروا خفافا وثقالا .
ثانيهما:إن ما في الإنجيل من روح السلام والمحبة والتواضع والإيثار ، والخضوع لكل سلطان ، لم ينتصر في أوربة على روح الحرب والأثرة والكبرياء وحب السيادة في الأرض- تلك الصفات التي كانت قد بلغت في عهد السلطة الرومانية أشدها ، وكانت سبب إبادة الوثنيين من أوربة كلها ، ثم سبب الحرب الصليبية ، ومحاولة إبادة المسلمين من البلاد المقدسة أو الشرق كله ، بل كانت ولا تزال سبب الحروب القاسية بين النصارى أنفسهم بسبب اختلاف المذاهب ، أو التنازع على الممالك ، وكل هذا من تعاليم روح الشيطان ، لا من تأثير تعاليم روح الله عليه السلام ، وإن رووا عنه أنه قال:ما جئت لألقي سلاما على الأرض إنما جئت لألقي سيفا .
فعلم من هذا إن ما كان بين المسلمين والنصارى من عداء فإنما سببه بعد أحد الفريقين أو كل منهما عن هداية دينه ، أو جهالة وسوء فهم وقع بينهما ، وأمر المتأخر من دولهما ظاهر ، لا ينسبه إلى طبيعة دينهما إلا جاهل أو مكابر ، فالدولة العثمانية كانت قد فتحت كثيرا من بلادهم بالقوة القاهرة ، فلما دالت لهم القوة ثأروا لأنفسهم ، فإن كان الساسة البلقانيون قد هاجوا شعوبهم على قتالها باسم الصليب والمسيح ، فلم يلبثوا أن كذب الله تعالى دعواهم المسيحية بإيقادهم نار القتال بينهم .فما زال أئمة السياسة المضلين من الفريقين يتخذون الدين أخدوعة يخدعون بها العامة لتأييد سياستهم حتى في الجناية على الدين وأهله .
فإن قيل:إن اليهودية أقرب إلى الإسلام من النصرانية لأنها ديانة توحيد ، والنصرانية ديانة تثليث ، والتوحيد هو أساس دين الله على ألسنة جميع رسله ، وهو منتهى الكمال في العقائد .ولذلك يجوز أن يغفر الله كل ذنب إلا الشرك .
فالجواب عن هذا إن عقيدة التثليث الدخيلة في المسيحية لما كانت لا تفهم ولا تعقل لم يكن لها تأثير في أنفس أهلها يبعدهم عن الإسلام .بل ربما كانت من أسباب قبول دعوة الإسلام ، وإنما التأثير الأعظم في تقريب الناس بعضهم من بعض أو ضده:الأخلاق والآداب ، وإننا نرى في كل عصر من الموادة بين المسلمين والنصارى ما لا نرى مثله بين غيرهما من المختلفين في الدين ، وما ضعفت هذه المودة في بلد إلا بفتن السياسة ، وعصبيات أهل الرياسة ، فلعنة الله على مثيري العداوة والبغضاء بين عباد الله إتباعا لأهوائهم ، أو إرضاء لرؤسائهم .
ومن مباحث الألفاظ في الآية أن الرهبان جمع راهب ( كركبان جمع راكب ) وهو المتبتل المنقطع في دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة ، فهو من الرهبة بمعنى الخوف .أو من رهب الإبل وهو هزالها وكلالها من طول السير ، والقسيسين جمع قسيس- ومثله قس وجمعه قسوس- وهو رئيس ديني في عرف الكنيسة فوق الشماس ودون الأسقف .مأخوذ من قولهم:قس الإبل يقسها ( من باب نصر ) قسا ( بتثليث القاف ) إذا أحسن رعيها وساقها .والأصل في القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم .لأنهم رعاة ومفتون .فيكون ذكر الرهبان والقسيسين جمعا بين العباد والعلماء ، وكون الرهبانية بدعة في النصرانية لا ينافي في تقريب النصارى من مودة المسلمين .
وروى أهل التفسير المأثور قولا بأن المراد بالقسيسين والرهبان من آمن بعيسى في عهده كالحواريين- وقولا آخر بأن المراد بهم جماعة النجاشي ، وسيأتي بعض ما ورد في ذلك .ومن الناس من يجعل هذه الآية آخر الجزء السادس لأن التجزئة لا تراعى فيها المعاني .
/خ85