{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِين} في سورة هود أن صالحا عليه السلام أمهل قومه ثلاثة أيام يتمتعون فيها بعد عقر الناقة ، فلما انتهت أنجاه الله تعالى ومن معه من المؤمنين برحمة منه وأنزل العذاب بالباقيين الظالمين بعد إنجائه ، وإنما يكون الإنجاء من عذاب صيحة الصاعقة الطاغية المتجاوزة للحد المعتاد بالبعد عن المكان الذي تقع فيه .وفي هذه الآية أنه تولى عنهم عقب هلاكهم كما يدل عليه العطف بالفاء .والمعهود في مثل هذا أن تتقدم هذه الآية على ما قبلها في الذكر كتقدم مدلولها بالفعل ، ولكن عهد في كلام العرب ترك الترتيب بين المعاني لنكت في الكلام ولاسيما كلام يعرف فيه الترتيب بالضرورة أو ما يقرب منها في الظهور ، وجعل بعضهم الآيتين هنا من هذا القبيل ، بناء على أن ما تضمنته الآية من إعذار صالح إلى قومه بإبلاغهم الرسالة ومحضهم النصيحة ، ومن تسجيله عليهم أفن الرأي وفساد الأخلاق بكره الناصحين وعدم الانتفاع بهم إنما يكون قبل التولي والانصراف عنهم أو عنده ولكن في حال حياتهم .
وفيه أن هذا وإن كان هو الأصل الذي سبق مثله في قصتي نوح وهود إلا أن مثله جائز أن يكون بعد الموت ، وله طريق مسلوك ، وأسلوب معهود وآخر مروي مأثور .
فأما الأول:فما يقوله المتحسر على من مات جانبا على حياته بالسكر ونحوه ، المعزي لنفسه بأنه لم يقصر في دفع الضر عنه .والمتحزن لعدم قبوله ما بذل من النصح له:ألم أنهك عن هذه المسكرات ؟ ألم أحذرك عاقبة هذه المخدرات{[1195]} فماذا أفعل إذا كنت تفضل لذة الساعات والأيام على هناء المعيشة المعتدلة في عشرات الأعوام ؟ ونحو هذا مما يقال في أحوال الحزن المختلفة خطابا للموتى بحسب أحوالهم ، بل عهد منهم مخاطبة الديار والطلول والآثار .
وأما الثاني:فهو ما ورد من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قتلى المشركين ببدر بعد دفنهم في القليب{[1196]} يا فلان ابن فلان وفلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا "؟ قال أبو طلحة الأنصاري راوي هذا الحديث فقال عمر:يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ أو فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "{[1197]} رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ثم قال:قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما اه قال العلماء:ومثل هذا مما خص الله به الأنبياء .
ولكن بعض المعتذرين لعباد القبور بدعاء أصحابها لقضاء حوائجهم يقيسون عليه وعلى ما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ أن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضي حاجته ، مع العلم بأن أمور عالم الغيب لا يقاس عليها ، وإن لم تكن من الخصائص التي لا يجري القياس فيها .