/م80
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء}{[1198]} استئناف بياني مفسر للإتيان المجمل الذي قبله .والإتيان كناية عن الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين تدعو إليه الشهوة ويقصد به النسل ، وتعليله هنا بالشهوة وتجنب النساء بيان لخروجهم عن مقتضى الفطرة ، وما اشتملت عليه هذه الغريزة من الحكمة ، التي يقصدها الإنسان العاقل والحيوان الأعجم ، فسجل عليهم بابتغاء الشهوة وحدها أنهم أخس من العجماوات وأضل سبيلا ، فإن ذكورها تطلب إناثها بسائق الشهوة لأجل النسل الذي يحفظ به نوع كل منها ، ألا ترى أن الطير والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء المساكن الصالحة لنسلها في راحته وحفظه مما يعدو عليه من عش في أعلى شجرة أو وكنة في قلة جبل أو جحر في باطن الأرض أو غيل في داخل أجمة أو حرجة ؟
وهؤلاء المجرمون لا غرض لهم إلا إرضاء حس الشهرة وقضاء وطر اللذة .ومن قصد الشهوات لذاتها تمتعا بلذاتها ، دون الفائدة التي خلقها الله تعالى لأجلها ، جنى على نفسه غائلة الإسراف فيها ، فانقلب نفعها ضرا ، وصار خيرها شرا ، بجعل الوسيلة مقصدا ، وصيرورة الإسراف فيه خلقا ، إذ الفعل يكون حينئذ عن داعية ثابتة لا عن علة عارضة ، فلا يزال صاحبه يعاوده حتى يكون ملكة راسخة له ، فتكرار العمل يكون الملكة ، والملكة تدعو إلى العمل والإصرار عليه وهذا وجه إضراب الانتقال من إسناد إتيان الفاحشة إليهم بفعل المضارع المفيد للتكرار والاستمرار إلى إسناد صفة الإسراف إليهم بقوله:
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُون} أي لستم تأتون هذه الفاحشة المرة بعد المرة بعد ندم وتوبة عقب كل مرة بل أنتم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال ففي سورة العنكبوت مكان هذه الآية وما قبلها عين ما قبلها{ إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} ( العنكبوت 29 ) وفي سورة الشعراء مكان هذا الاضطراب هنا{ بل أنتم قوم عادون} ( الشعراء 166 ) أي متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة ، فهو بمعنى الإسراف ، وفي سورة النمل{ بل أنتم قوم تجهلون} ( النمل 55 ) وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش .ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مرزوئين بفساد العقل والنفس بجمعهم بين الإسراف والعدوان والجهل ، فلا هم يعقلون ضرر هذه الفاحشة في الجناية على النسل وعلى الصحة وعلى الفضيلة والآداب العامة ولا غيرها من منكراتهم فيجتنبوها أو يجتنبوا الإسراف فيها ، ولا هم على شيء من الحياء وحسن الخلق يصرفهم عن ذلك .
وما كان العلم بالضرر وحده ليصرف عن السوء والفساد إذا حرم صاحبه الفضائل ومكارم الأخلاق ، بل الفضائل الموهوبة بسلامة الفطرة ، عرضة للفساد بسوء القدرة ، إلا إذا رسخت بالفضائل المكسوبة بتربية الدين ، فإننا نعلم أن هذه الفاحشة فاشية بين أعرف الناس بمفاسدها ومضارها في الأبدان والأنفس ونظام الاجتماع من المتعلمين على الطريقة المدنية العصرية حتى الباحثين في الفلسفة منهم ، فقد بلغني عن بعضهم أنه قال لأخدانه:إن هذه الفعلة لا تحدث نقصا في النفس الناطقة .ونقول:يا لها من فلسفة فاسقة! أليسوا يستخفون بها من الناس حتى أشدهم استباحة للشهوات كالإفرنج لكي لا ينتقصوهم ويمتهنوهم ؟ أو ليسوا بذلك يشعرون بنقص أنفسهم الناطقة ودنسها ، فإن لم يشعر الفاعل ، أفلا يشعر القابل ؟ بلى ولكن قد يجهل كثير من الأحداث الذين يخدعون عن أنفسهم بهذه الفاحشة أنهم يصابون بداء الأبنة ، حتى إذا كبر أحدهم وصار لا يجد من الفساق من يرغب في إتيانه للاستمتاع به يبحث هو في الخفاء عمن يؤجر نفسه لهذا العمل من تحوت الفقراء وأراذل الخدم ، فيجعل له جعلا أو راتبا على إتيانه ، وهو لا يلبث أن يعاف هذا المنكر أو يعجز عن إرضاء صاحبه ( المهين عنده المحترم عند من لا يعرف حاله ) فينشد المأبون غيره ، ولا يزال يذل ويخزى في مساومة أفراد هذه الطبقة السفلى على نفسه حتى يفتضح أمره في البلد ويشتهر بل يشهر بين سائر طبقات الناس ، فإن أكثر التحوت الذين يعلونه لا يخجلون من إفشاء سرهم معه ، ولأنه كثيرا ما يعرض نفسه على من ليس منهم ويراودهم بالتصريح ، إذا لم يعرضوا عنه عند ما يبدأ به التعريض والتلويح .أفنسي من ذكرنا من فلاسفة الفسق هذا الخزي ؟ أم يرون أنه لا يدنس النفس الناطقة بنقص ؟ فقبح اللواطة وفحشها ليس بكونها لذة بهيمية كما قيل:إذ اللذة البهيمية لا قبح فيها لذاتها ، لأنها مقتضى الفطرة ومبدأ حكمة بقاء النسل ، بل فحشها باستعمالها بما يخالف مقتضى الفطرة وحكمتها وبما يترتب عليها من المضار البدينة والاجتماعية والأدبية الكثيرة .
/خ84