/م80
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون} أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار والنصيحة شيئا مما يدخل في باب الحجة ولا الاعتذار ، ولا غير ذلك مما اعتيد في الجدال .ما كان إلا الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم وتعليل ذلك بأنهم أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم في رجسهم ، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم مع هذه المباينة .فإن الناقص يستثقل معاشرة الكامل الذي يحتقره .وفي سورة الشعراء أنهم أنذروه هذا الإخراج إذا هو لم ينته عن الإنكار .
فإن قيل:إنه لم يسبق ذكر لمن آمن معه فيعود إليهم ضمير"أخرجوهم ".
( قلنا ) إن هذا مما يعرف بالقرينة وقد صرح به في آية النمل ففيها ( أخرجوا آل لوط ) بدل أخرجوهم والباقي سواء ، إلا العطف في أولها بالفاء ، كآية العنكبوت التي اختلف فيها الجواب ، وهي{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} ( العنكبوت 29 ) والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ومتى كان الكلام مفهوما كان صحيحا فصيحا وإن أشكل على جامدي النحاة إعرابه كما سبق نظيره .
فإن قيل:إن في حكاية الجوابين تعارضا في المعنى محكيا بصيغة النفي والإثبات فيهما فكيف وقع هذا في كتاب الله تعالى وما الذي يدفع هذا التعارض ؟
قلنا:إنه لا تعارض ولا تنافي بين الجوابين ، لحملهما على الوقوع في وقتين .ولا شك أنه كان ينهاهم كثيرا فكان يسمع في كل وقت كلاما ممن حضر منهم ، وقد قلنا إن قصص القرآن لم يقصد بها سرد حوادث التاريخ بل العبرة والموعظة فيذكر في كل سورة من القصة الواحدة من المعاني والمواعظ ما لا يذكر في الأخرى ، ومجموعها هو كل ما أراد الله تعالى أن يعظ به هذه الأمة .فمن المعهود أن الرسل عليهم السلام وكذا غيرهم من الوعاظ الذين ينهون الضالين والمجرمين عن المنكر يكررون لهم الوعظ بمعان متقاربة .ويسمعون منهم أجوبة متشابهة وقد يقول بعضهم ما لا يقول غيره فيعجبهم ويقرونه عليه فيسند إليهم كلهم ، كما يسند إليهم فعل الواحد منهم إذا رضوه وأقروه عليه ولو بعد فعله ، كما تقدم آنفا في إسناد عقر الناقة إلى قوم صالح وإنما عقرها واحد منهم ، وقد حكى الله تعالى من قول رسوله لوط عليه السلام لقوله في سورة العنكبوت ما لم يحكه في سورتي الأعراف والنمل ، فزاد على إتيانهم الرجال قطع السبيل ، وإتيانهم المنكر في النادي الحافل ، والمجلس الحاشد ، فكأنهم ضاقوا به حينئذ ذرعا واستعجلوه العذاب الذي أنذرهم إذا أصروا على عصيانه ، والأظهر أن هذا كان بعد أمرهم بإخراجه ، وأن التوعد بالإخراج كان قبل الأمر به والله أعلم .
فإن قيل:هذا مقبول{[1199]} لأن مثله معهود معروف ولكن ما وجه بدء جملة الجواب بالواو تارة وبالفاء أخرى وما وجه اختصاص كل منهما بموضعه ؟
قلنا:إن عطف الجملة على ما قبلها بكل من الواو والفاء جائز إلا أن في الفاء زيادة معنى لأنها تفيد ربط ما بعدها بما قبلها بما يقتضي وجوب تلوه له فهو جماع معانيها العامة من التعقيب والسببية وجزاء الشرط ، والأصل العام في هذا الارتباط أن يكون ما بعد الفاء أثرا لفعل وقع قبله ، وكل من آيتي النمل والعنكبوت جاء بعد إسناد فعل إلى القوم ، وهو قوله في الأولى:{ بل أنتم قوم تجهلون} ( النمل 55 ) وفي الثانية:{ إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} ( العنكبوت 29 ) فلذلك عطف الجواب على ما بعدهما بالفاء .وأما آية الأعراف فقد جاءت بعد جملة اسمية وهي قوله:{ بل أنتم قوم مسرفون} ( الأعراف 81 ) وإسناد صفة الإسراف إليهم فيها مقصود بالذات دون ما قبله من فعل الفاحشة الذي كان بتكراره علة لهذه الصفة وكان الإصرار عليه معلولا لها ، وثم وجه آخر لعطف هذه بالواو مبني على ما استظهرناه من كون الأمر بإخراجه عليه السلام من بعضهم قد كان بعد الإنذار والوعيد به من آخرين منهم فكان بهذا في معنى المعطوف عليه فكأنه قال:فما كان جواب قومه إلا أن قال بعضهم:لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين وإن قال بعضهم أخرجوا آل لوط من قريتكم وردده آخرون أخرجوهم من قريتكم ، وهذه الدقة في اختلاف التعبير في المواقع المتحدة أو المتشابهة لأمثال هذه النكت لا تجدها مطردة إلا في كتاب الله تعالى:وهي من إعجازه اللفظي ، ولذلك يغفل عنها أكثر المفسرين .
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) فإذا هو يقول:وإنما جيء بالواو في ( وما كان ) إلخ دون الفاء كما في النمل والعنكبوت لوقوع الاسم قبل الفعل هنا والفعل هناك ، والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم ، وفيه تأمل اه ولعمري إنه جدير بالتأمل للفظه الذي أورده به أولا ولمعناه بعد فهمه ثانيا ، فإن ظهر للمتأمل أن وجه الحسن في التعقيب ما بسطناه انتهى تعب التأمل بالقبول إن شاء الله ولم يكن عبثا ، وإلا كان حظه منه كد الذهن وإضاعة الوقت معا ، وما كتبت هذه النكتة ، إلا لأقول فيها هذه الكلمة ، وإني بذكاء أصحاب الإيجاز المخل من المعجبين ، وإن قل من ينتفع بعلمهم من الصابرين ، وسيقل عددهم في هذه الأمة كما قل في غيرها من الأمم التي عرفت قيمة العمل ، فضنت به أن يضيع جله في حل رموز زيد وعمرو .
فإن قيل:إن المعهود من أهل الرذائل أن ينكروها أو يسموها بغير اسمها ويألمون ممن يعيرهم بها لما جبل الله عليه البشر من حب الكمال وكره النقص ، فكيف علل قوم لوط إخراجه هو ومن معه بأنهم يتطهرون ويتنزهون من أدران الفواحش وهو شهادة لهم بالكمال وشهادة على أنفسهم بالنقص ؟
فالجواب:ما قال الزمخشري فيه وهو أنه:سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخارهم بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم:أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد اه ومثله معهود من المجاهرين بالفسق ، وللنقص والرذائل دركات ، كما أن للكمال والفضائل درجات ، فأولاها أن يلم بالرذيلة وهو يشعر بقبحها ، ويلوم نفسه عليها ، ثم يتوب إلى ربه منها ، ويليها أن يعود إليها المرة بعد المرة مستترا مستخفيا ، ويليها أن يصر عليها ، حتى يزول شعوره بقبحها ويليها أن يجهر بها ، ويكون قدوة سيئة للمستعدين لها ، ويليها أن يفاخر بها أهلها ويحتقر من يتنزهون عنها ، وهذه أسفل الدركات ، وهي دركة قوم لوط ولا يهبط إليها ولا يسف من يؤمن بالله واليوم الآخر بل وصف الله المؤمنين بأنهم إذا عملوا السيئات يعملونها بجهالة ثم يتوبون من قريب وأنهم لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون .
/خ84