/م85
{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قلنا إنه عليه السلام قد بدأ بدعوتهم إلى توحيد العبادة لأنه ركن الدين الأعظم الذي هدمته الوثنية ، وثنى بالأوامر والنواهي المتعلقة بحالهم الغالبة عليهم .وأما هذا النهي عن قطعهم الطرق على من يغشى مجلسه عليه السلام ويسمع دعوته ويؤمن به فلم يؤخره لأن اقترافه دون اقتراف التطفيف في الكيل والميزان وبخس الحقوق ، بل لأنه متأخر عنها في الزمن ، فالدعوة قد وجهت أولا إلى أقرب الناس إليه في بلده ثم إلى الأقرب فالأقرب منهم وممن يزور أرضهم ، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له في الأكثر وتلك سنة الله في الخلق .فلما رأوا غيرهم يقبل دعوته ويعلقها ويهتدي بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من توعد سالكيها إليه ويصدونهم عن سبيل الله يدعوهم إليها ، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا وهداها ضلالا ، وتقدم مثل هذه الجملة ( في الآية 44 من هذه السورة فيراجع ) .
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} قال كانوا يجلسون في الطريق فيقولون لمن أتى عليهم إن شعيبا كذاب فلا يفتنكم عن دينكم .وفي رواية عنه كل صراط طريق توعدون قال تخوفون الناس أن يأتوا شعيبا وهذا تفسير للصراط بالطريق الحسي الحقيقي وروي عن مجاهد تفسيره بالسبيل المجازي قال:{ بكل صراط} بكل سبيل حق إلخ وروي أنهم كانوا يخوفون الناس بالقتل إذا آمنوا به .
والحاصل أنه نهاهم هنا عن ثلاثة أشياء:أولها:قعودهم على الطرقات التي توصل إليه يخوفون من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته ثانيها:صدهم من وصل إليه وآمن بصرفه عن الثبات على الإيمان والإسلام والاستقامة على سبيل الله تعالى الموصلة إلى سعادة الدارين ثالثها:ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة ذات عوج بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها كقولهم له عليه السلام الذي حكاه الله تعالى عنهم في سورة هود ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} ( هود 62 ) .{ أو نفعل في أموالنا ما نشاء} ( هود 87 ) ؟
فهاهنا ضلالتان ضلالة التقليد والعصبية للآباء والأجداد ولا تزال تكأة أكثر الضالين في أصل الدين وفي فهمه وفي الاهتداء به وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي لم تكن فتنتها في زمن ما أشد وأعم منها في هذا الزمن بما بث الإفرنج الفاتنون المفتونون لدعوتها في كل الأمم حتى أن حكومة كالحكومة المصرية تبيح الزنا لشعب يدين أكثر أهله بالإسلام وأقله بالنصرانية واليهودية وكلهم يحرمون الزنا وإنما أباحته بإغواء أساتذتها وسادتها من الإفرنج وقد خنع الشعب المستذل المستضعف لها ، وسكت علماؤه ومرشدوه الدينيون فلا ينكرون عليها أفرادا ولا جماعات ، ولا يتظاهرون على الاحتجاج على عملها بالخطب الدينية والاجتماعية ولا بالنشر في الصحف العامة ، وقد أدى السكوت عن هذا وما أشبهه إلى أن صار المنكر معروفا يكثر أنصاره والمستحسنون له ، ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن استحلال الزنا وإباحته كفر وردة .وعلماء الدين يتحدثون فيما بينهم بكفر واضعي أمثال هذه الأحكام والقوانين والمستبيحين لها من سواهم ، ولكنهم قلما يتجاوزون التناجي في ذلك بينهم إما لضعفهم أو لأن أرزاقهم من الأوقاف ومنصب القضاء في أيدي هؤلاء الحكام ، كما بيناه في مواضع ومن مفاسد هذا السكوت عن إنكار المنكر بأن بعض المسلمين يحتجون به على شرعية كل ما يسكت عنه علماء الدين .
{ وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أي وتذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد فكثركم الله تعالى بما بارك في نسلكم فاشكروا له ذلك بعبادته وحده واتباع وصاياه في الحق والعدل وترك الفساد في الأرض .
{ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} من الشعوب المجاورة لكم كقوم لوط وقوم صالح وغيرهم ، وكيف أهلكهم الله تعالى بفسادهم ، فيجب أن يكون لكم عبرة في ذلك .