{ وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيبا إنّكم إذا لخاسرون 90 فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين 91 الّذين كذّبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الّذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين 92 فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين 93} .
لمّا يئس الملأ من قوم شعيب من دعوته في ملتهم ، وعلموا أنه ثابت على مقارعتهم ، خافوا أن يكثر المهتدون به من قومهم ، فحذروهم ذلك بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:{ وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيبا إنّكم إذا لخاسرون} .
هذا عطف على{ قال الملأ الذين استكبروا} وليس جوابا لشعيب عليه السلام ولا داخلا في هذه المراجعة بينه وبينهم إذ لو كان كذلك لفصل ولم يعطف ، بل ذلك ما قالوه له والمناسب فيه وصفهم بالاستكبار فهو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره الإخراج من قريتهم المشعر بأنهم هم أصحاب السلطان فيها ، وهذا ما قالوه لقومهم إغواء لهم بصدهم عن الإيمان له ، والأخذ بما جاء به ، والمناسب فيه وصفهم بالكفر ، فهو الحامل لهم عليه ، سواء كان سببه الاستكبار عن اتباعه أو غيره ، بل لو علم أولو الرأي من قومهم أن سبب صدّهم عنه هو الاستكبار والعتو لما أطاعوهم ، ولذلك عللوا لهم صدهم عنه بما يوهمهم أنه هو المصلحة لهم إذ قالوا لهم بصيغة القسم لئن اتبعتم شعيبا إنكم في هذه الحالة لخاسرون ، وحذف متعلق الخسار ليعم كل ما يصلح له ، أي خاسرون لشرفكم ومجدكم ، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم ، ومناط عزكم وفخركم ، واعترافكم بأنهم كانوا كافرين ضالين وأنهم معذبون عند الله تعالى – وخاسرون لثروتكم وربحكم من الناس بما حذفتموه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم ، وأي خسارة أكبر من خسارة الشرف والثروة ؟
فمعلوم أن اللام في قولهم: "لئن "موطئة للقسم وهي أقوى مؤكد للكلام ، والجملة الاسمية وتصديرها بإن وقرن خبرها باللام وتوسيط"إذا "التي هي جواب وجزاء بين طرفيها ، كل ذلك من المؤكدات لمضمونها الخادعة لسامعيها ، وأن مثلها مما يروج بين أمثالهم في كل زمان ، ولاسيما زمن التفاخر بالآباء ، والتعصب للأقوام والأوطان ، فإننا ابتلينا في دعوتنا إلى الإصلاح بمن كانوا يصدون الناس عنا وعن نصيحتنا لأهل ملتنا بأننا لم نولد في بلادهم ، ولا ننتمي إلى أحد من أجدادهم ، على أننا ننتمي بفضل الله تعالى إلى آل بيت نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأن منهم من لا يعرف له نسب ، ومنهم من ليس من القبط ولا العرب ، وأننا نرى أشد الشعوب عصبية للوطن لا يجعلونها سببا للصد عن العلوم والفنون ولا الدين ومذاهبه ، وإنما التنافس بينهم في جعل كل واحد منهم وطنه أعز وأقوى وأغنى وأقنى ولو باقتباس العلم من الآخر:نرى رجال الدين الكاثوليكي من الألمان والفرنسيس أعوانا على نصر الكثلكة ونشرها في بلادهم وغيرها ، كما نرى مثل هذا بين رجال البروتستانية من الألمان والإنكليز ، كدأبهم وسيرتهم في العلم ، فعلماء كل شعب يتسابقون إلى اقتباس ما يظهر عند الآخر من اختراع أو كشف عن حقيقة علمية أو اهتداء لسنة كونية أو منفعة للخلق ، ويعزون كل أمر إلى صاحبه ، ويقولون إن العلم لا وطن له .
وإنما يقع التغاير والتفرق بين البشر في مثل هذا في إبان ضعفهم وغلبة الجهل عليهم ، وفشو التحاسد وسائر الأخلاق الرديئة فيهم ، واعتبر ذلك في الأمة الإسلامية في إبان ارتقائها العلمي حتى القرن الخامس والسادس إذ كان مثل أبي حامد الغزالي يجيء بغداد عاصمة العلم والملك الكبرى في الأرض فيكون رئيسا لأعظم مدرسة فيها بل في العالم ( وهي النظامية ) ولا يحول دون ذلك كونه من قرية طوس في بلاد الفرس – وفيما بعده إذ تغيرت الحال ، كما بيناه في مواضع من المنار ، ونحمد الله أن تلك النزعة الشيطانية تكاد تزول من مصر بارتقاء العلم والعمران على كون النزعة الوطنية العصرية تزداد قوة وانتشارا .