/م72
{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى أو عن نزول هذه الآيات فيكون الماضي « آمنوا » وما بعده بمعنى المستقبل ، وقيل عن صلح الحديبية ، وكان في ذي القعدة سنة ست ، والسورة كلها نزلت عقب غزوة بدر ، وحكمهم على كل حال أنهم يلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار فيما تقدم بيانه من أحكام ولايتهم وجزائهم .قال ابن جرير:{ فأولئك منكم} في الولاية يجب لكم عليهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضهم على بعض ، وروي ذلك عن ابن إسحاق ولا خلاف فيه على ما أعلم .
وأقول إن جعلهم تبعا لهم وعدوهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين ولاسيما بعد اختلاف الحالين من قوة وضعف وغنى وفقر وقال تعالى:{ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [ الحديد:10] ( رضي ) وقال تعالى:{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} [ التوبة:100] وقد بين في سياق قسمة الفيء من سورة الحشر هذه الدرجات الثلاث فقال عز من قائل:{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [ الحشر:810] وفضيلة السبق معلومة بالنقل والعقل{ والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} [ الواقعة:1012] والروافض يكفرون بهذه الآيات كلها بما يطعنون به على جمهور الصحابة وعلى السابقين الأولين خاصة ، ومن المعلوم بالتواتر أن أول أولئك السابقين بالإيمان والهجرة معا الذين شهد الله تعالى بصدقهم هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، وسخط على أعدائه والطاعنين فيه المكذبين بهذه الآيات ضمنا .
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وأولوا الأرحام هم أصحاب القرابة وهو جمع رحم « ككتف وقفل » وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها ويسمى به الأقارب لأنهم في الغالب من رحم واحد .وفي اصطلاح علماء الفرائض هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب ، وهم عشرة أصناف الخال والخالة والجد للأم ، وولد البنت ، وولد الأخت ، وبنت الأخ ، وبنت العم ، والعمة ، والعم للأم ، وابن الأخ للأم ، ومن أدلى بأحد منهم .وقد اختلف علماء السلف والخلف في إرثهم لمن لا وارث له بما ذكر ، واستدل المثبتون بعموم هذه الآية فإنه يشملهم وكذا عموم قوله تعالى:{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [ النساء:7] وبأحاديث آحادية في إرث الخال فيها مقال وبحديث «ابن أخت القوم منهم »{[1465]} وهو في الصحيحين وغيرهماوعليه أكثر العلماء:وممن قال بتوريثهم من الصحابة علي وابن مسعود وأبو الدرداء ومن التابعين وأئمة الأمصار مسروق ومحمد بن الحنفية والنخعي والثوري وبعض أئمة العترة وأبو حنيفة وغيرهم وهو المختار عندي ولاسيما في هذا الزمان .وترى في كتب الفرائض ما يستحقه كل وارث منهم ، وري عن ابن عباس أن هذه الآية وما قبلها نزلت في نسخ هذا الإرث وهذا مشهور عنه وهو من أضعف التفسير عنه رضي الله عنه .
وروى البخاري وأبو داود والنسائي عنه في تفسير{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} [ النساء:33] أنه فسر الموالي بالورثة .ثم قال في تفسير{ والذين عقدت أيمانكم} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت{ ولكل جعلنا موالي] نسخت .ثم قال:{ والذين عقدت أيمانهم} من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث فيوصى له اه .هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير ، وهو أوضح من لفظه في كتاب الفرائض وفي كل منهما غموض وإشكال في إعرابه ومعناه ، والمراد لنا منه أنه فسر المعاقدة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبأن الناسخ لها هذه الآية .
قال الحافظ في هذه الرواية:وحملها غيره على أعم من ذلك ، أي مما كانوا يتعاقدون عليه من الإرث ، ثم ذكر عنه مثل هذا وأن الناسخ له آية الأحزاب:{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله تعالى من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} [ الأحزاب:6] وهي مفصلة وسورتها قد نزلت بعد سورة الأنفال وفيها الكلام على غزوة الأحزاب التي كانت بعد غزوة بدر بسنتين وقيل بثلاث سنين فالتحقيق أن آية الأنفال وسورتها نزلت قبل آيات الإرث وقبل سورتي النساء والأحزاب فهي مطلقة عامة .
والمعنى المتبادر من نص الآية وقرينة السياق أنها في ولاية الرحم والقرابة ، بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة ، فهو عزَّ وجلَّ شأنه يقول:وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاونوكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة ثم في كل عهدهم أولى بذلك في كتاب الله أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين وأوجب عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى في هذه الآية وغيرها مما نزل قبلها ، وأكده فيما نزل بعدها كآية الأحزاب في معناها وكقوله بعد محرمات النكاح{ كتاب الله عليكم} [ النساء:24] فهو قد أوجبه في دين الفطرة ، كما جعله من مقتضى غرائز الفطرة ، فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ، ومقدم عليهم في جميع أنواع الولايات المتعلقة بأمره ، كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغير ذلك .وهذه الأولوية لا تقتضي عدم التوارث العارض بين المهاجرين والأنصار والمتعاقدين على أن يرث كل منهما الآخر كما كانت تفعل العرب ، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب مقدم كما قال تعالى:{ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين} [ البقرة:83] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي من حديث جابر بسند صحيح ( ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ){[1466]} أي فللمستحق من كل جانب .
وهذا موافق لقوله تعالى في وصف أولي الألباب من المؤمنين بالقرآن من سورة الرعد المكية{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} [ الرعد:20] .وعهد الله هنا يشمل جميع ما عهده إلى البشر من التكاليف سواء كانت بلفظ العهد كقوله:{ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [ ياسين:60] الآيتين أو بلفظ آخر ومنه{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان [ الأعراف:27] وأمثاله من النداء في هذه السورةومن الوصايا في السورة التي قبلها ( الأنعام ) كما يشمل ما عاهدوا الله عليه بلفظ العهد أو بدونه ، وما يعاهد بعضهم بعضا عليه بشروطه ، ومنها أن لا يكون على شيء محرم .ويدخل في العهد العام ما أوجبه من موالاة المؤمنين وحقوقهم ، ثم ذكر بعد صفة هؤلاء ما يقابلها من صفات الكافرين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، وهو ما ذكر هنا .وقفى عليه بالأمر بصلة الرحم وهو أهم ما أمر الله به أن يوصل .ثم قال تعالى في صفة من يضلون عن هداية القرآن من سورة البقرة المدنية{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} [ البقرة:27] وقد سبق في تفسيرها أن العهد الإلهي قسمان:فطري خلقي ، وديني شرعي .
وجملة القول أن أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها ولكن في ضمن دائرتهما فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجري والأنصاري من المؤمن الأجنبي ، وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم كما قال تعالى في سورة الممتحنة:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [ الممتحنة:1] .وإن كان معاهدا أو ذميا فله من حق البر وحسن العشرة ما ليس لغيره .قال تعالى في الوالدين المشركين:{ وإن جاهداك على أن تشرك بما ليس لك به علم فلا تطمعها وصاحبهما في الدنيا معروفا} [ لقمان:15] ثم قال في الكفار عامة{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [ الممتحنة:8] فالبر والعدل مشروعان عامان في حدود الشرع ، ومحل تفصيل هذا البحث تفسير سورة الممتحنة .
ثم ختم الله تعالى السورة بقوله تعالى:{ إن الله بكل شيء عليم} فهو تذييل استئنافي لأحكام هذا السياق الأخير بل لجميع أحكام السورة وحكمها ، مبين أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها ، فالمعنى أنه تعالى شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام ، وما قبلها مما سبق من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع ، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب ، عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية .كما قال في السورة السابقة:{ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [ الأعراف:52] .
فنسأله تعالى في خاتمة تفسير هذه السورة أن يزيدنا علما وفقها بأحكام كتابه وحكمه ، وأن يزيدنا هداية بعلومه وآدابه ، وأن يوفقنا لإتمام تفسيره على ما يحب ويرضى ، والصلاة والسلام على من أنزله عليه هدى للمتقين ، وأرسله به رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلام على المرسلين ، والحم لله رب العالمين .