ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت .لأنه لا خلاص لهم منه ،بقوله:
( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا78 )
( أينما تكونوا ) أي:في أي مكان كونوا عند الأجل ( يدرككم الموت ) أي:الذي لأجله تكرهون القتال ،زعما منكم أنه من مظانه .وتحبون القعود عنه ،على زعم أنه منجاة منه .أي:وإذا كان لا بد من الموت ،فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية ،كان أولى من أن لا يكون كذلك .ونظير هذه الآية قوله تعالى:( قل لن ينفعكم الفرار ان فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا ){[1998]} .( ولو كنتم في بروج ) أي حصون ( مشيدة ) أي:مرفوعة مستحكمة .لا يصل إليها القاتل الإنساني .لكنها لا تمنع القاتل الإلهي .كما قال زهير بن أبي سلمى{[1999]}:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو رام أسباب السماء بسلم
وقد ذكر ابن جرير{[2000]}وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد .والشاهد منها هنا ،أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت .فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك .فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف .فأراها إياها فقالت:أهذه التي تحذرها علي ؟ والله ! لا يقتلها إلا أنا .فأنزلوها من السقف .فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها .فطار من سمها شيء بين ظفرها ولحمها .واسودت رجلها .فكان في ذلك أجلها .فماتت .
ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد .خائفين من الموت ،غير راغبين في سعادة الآخرة ،أتبع ذلك بخلة لهم أشنع ،بقوله سبحانه:( وان تصبهم حسنة ) كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها ( يقولوا هذه من عند الله ) أي من قبله ،لما علم فينا الخير ( وان تصبهم سيئة ) كقحط وجدب ،وغلاء السعر ،ونقص في الزروع والثمار ،وموت أولاد ونتاج ،ونحو ذلك ( يقولوا هذه من عندك ) يعنون:من شؤمك .كما قال تعالى عن قوم فرعون:( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ){[2001]} .وعن قوم صالح:( قالوا اطيرنا بك وبمن معك ){[2002]} .
قال أبو السعود:فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ،ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال .إذ لا يجترؤون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل:( قل كل من عند الله ) أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى ،خلقا وايجادا ،من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون .بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا .ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة .كما سيأتي بيانه .فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ،ردا على أسلافهم من قوله تعالى:( ألا انما طائرهم عند الله ) ،أي انما سبب خيرهم وشرهم ،أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم ،عند الله تعالى لا عند غيره .حتى يسندوها إليه ويطيروا به ( فمال هؤلاء القوم ) يعني المنافقين ( لا يكادون يفقهون حديثا ) أي قولا .والجملة اعتراضية مسوقة لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم .إذ لو فقهوا شيئا لعلموا مما يوعظون به ،أن الله هو القابض الباسط .وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان .والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد .