هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عز وجل ، لما تمت النعمة عليه ، باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما من الله به عليه من النبوة والملك ، سأل ربه عز وجل ، كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه . قاله الضحاك ، وأن يلحقه بالصالحين ، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين ، صلوات الله وسلامه [ عليه و] عليهم أجمعين .
وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف ، عليه السلام ، قاله عند احتضاره ، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يرفع أصبعه عند الموت ، ويقول:"اللهم في الرفيق الأعلى ، اللهم في الرفيق الأعلى ، اللهم في الرفيق الأعلى ".
ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله ، وانقضى عمره; لا أنه سأل ذلك منجزا ، كما يقول الداعي لغيره:"أماتك الله على الإسلام ". ويقول الداعي:"اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين ".
ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، كما قال قتادة:قوله:( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) لما جمع الله شمله وأقر عينه ، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها ، فاشتاق إلى الصالحين قبله ، وكان ابن عباس يقول:ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف ، عليه السلام .
وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس:أنه أول نبي دعا بذلك . وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام . كما أن نوحا أول من قال:( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) [ نوح:28] ويحتمل أنه أول من سأل نجاز ذلك ، وهو ظاهر سياق قتادة ، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا الموت فليقل:اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ".
[ ورواه البخاري ومسلم ، وعندهما:"لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ، ولكن ليقل:اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي "] .
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال:جلسنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء ، فقال:يا ليتني مت! فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم:"يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟ "فردد ذلك [ ثلاث] مرات ثم قال:"يا سعد ، إن كنت خلقت للجنة ، فما طال عمرك ، أو حسن من عملك ، فهو خير لك "
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس - هو سليم بن جبير - عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعون به من قبل أن يأتيه ، إلا أن يكون قد وثق بعمله ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا "تفرد به أحمد .
وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به ، أما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا:( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) [ الأعراف:126] وقالت مريم لما أجاءها المخاض ، وهو الطلق ، إلى جذع النخلة ( ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) [ مريم:23] لما تعلم من أن الناس يقذفونها بالفاحشة; لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت وولدت ، فيقول القائل أنى لها هذا ؟ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا:( يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) [ مريم:27 ، 28] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا ، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله ، وكان آية عظيمة ومعجزة باهرة ، صلوات الله وسلامه عليه ، وفي حديث معاذ ، الذي رواه الإمام أحمد والترمذي ، في قصة المنام والدعاء الذي فيه:"وإذا أردت بقوم فتنة ، فتوفني إليك غير مفتون ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سلمة ، أنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"اثنتان يكرههما ابن آدم الموت ، والموت خير للمؤمن [ من الفتنة] . ويكره قلة المال ، وقلة المال أقل للحساب ".
فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ; ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال:اللهم ، خذني إليك ، فقد سئمتهم وسئموني .
وقال البخاري ، رحمه الله ، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان:اللهم توفني إليك .
وفي الحديث:"إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول:يا ليتني مكانك "لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون .
قال أبو جعفر بن جرير:وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم ، وغفر لهم ذنوبهم .
[ ذكر من قال ذلك]:
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن ، حدثني حجاج ، عن صالح المري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال:إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله ، وأقر عينه خلا ولده نجيا ، فقال بعضهم لبعض:ألستم قد علمتم ما صنعتم ، وما لقي منكم الشيخ ، وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا:بلى . قال:فيغركم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدا ، قالوا:يا أبانا ، إنا أتيناك في أمر ، لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله . حتى حركوه ، والأنبياء ، عليهم السلام ، أرحم البرية ، فقال:ما لكم يا بني ؟ قالوا:ألست قد علمت ما كان منا إليك ، وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال:بلى . قالوا:أو لستما قد عفوتما ؟ قالا:بلى . قالوا:فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا ، إن كان الله لم يعف عنا . قال:فما تريدون يا بني ؟ قالوا:نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرة عين في الدنيا أبدا لنا . قال:فقام الشيخ فاستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين . قال:فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة - قال صالح المري يخيفهم - قال:حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل ، عليه السلام ، على يعقوب فقال:إن الله بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة .
هذا الأثر موقوف عن أنس ، ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا .
وذكر السدي:أن يعقوب ، عليه السلام ، لما حضره الموت ، أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات صبره وأرسله إلى الشام ، فدفن عندهما ، عليهم السلام .