وقوله:( وجاهدوا في الله حق جهاده ) أي:بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى:( اتقوا الله حق تقاته ) [ آل عمران:102] .
وقوله:( هو اجتباكم ) أي:يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع .
( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) أي:ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء فشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ثنتين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتصلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات; ولهذا قال ، عليه السلام:"بعثت بالحنيفية السمحة "وقال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرين إلى اليمن:"بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ". والأحاديث في هذا كثيرة; ولهذا قال ابن عباس في قوله:( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) يعني:من ضيق .
وقوله:( ملة أبيكم إبراهيم ):قال ابن جرير:نصب على تقدير:( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) أي:من ضيق ، بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم . [ قال:ويحتمل أنه منصوب على تقدير:الزموا ملة أبيكم إبراهيم] .
قلت:وهذا المعنى في هذه الآية كقوله:( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) الآية [ الأنعام:161] .
وقوله:( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) قال الإمام عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله:( هو سماكم المسلمين من قبل ) قال:الله عز وجل . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( هو سماكم المسلمين من قبل ) يعني:إبراهيم ، وذلك لقوله:( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) [ البقرة:128] .
قال ابن جرير:وهذا لا وجه له; لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى:( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) قال مجاهد:الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، ) وفي هذا ) يعني:القرآن . وكذا قال غيره .
قلت:وهذا هو الصواب; لأنه تعالى قال:( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال:( هو سماكم المسلمين من قبل ) أي:من قبل هذا القرآن ) وفي هذا ) ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية:
أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال:أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم ". قال رجل:يا رسول الله ، وإن صام وصلى؟ قال:"نعم ، وإن صام وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله ".
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله:( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) من سورة البقرة [ الآية:21] ; ولهذا قال:( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) أي:إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة ( شهداء على الناس ) لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها; فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك . وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ البقرة:143] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته .
وقوله:( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) أي:قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ، وترك ما حرم . ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله ، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة "التوبة ".
وقوله:( واعتصموا بالله ) أي:اعتضدوا بالله ، واستعينوا به ، وتوكلوا عليه ، وتأيدوا به ، ( هو مولاكم ) أي:حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم ، ( فنعم المولى ونعم النصير ) يعني:[ نعم] الولي ونعم الناصر من الأعداء .
قال وهيب بن الورد:يقول الله تعالى:ابن آدم ، اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظلمت فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . رواه ابن أبي حاتم .
والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال .
هذا آخر تفسير سورة "الحج "، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .