القول في تأويل قوله تعالى:رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته , وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة , ومكنه في الأرض , متشوِّقًا إلى لقاء آبائه الصالحين:( رب قد آتيتني من الملك ) ، يعني:من ملك مصر، ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، يعني من عبارة الرؤيا، (20) تعديدًا لنعم الله عليه، وشكرًا له عليها، ( فاطر السماوات والأرض )، يقول:يا فاطر السموات والأرض، يا خالقها وبارئها (21)، ( أنت وليي في الدنيا والآخرة ) ، يقول:أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك , وتغذوني فيها بنعمتك , وتليني في الآخرة بفضلك ورحمتك .( (22) توفني مسلمًا ) ، يقول:اقبضني إليك مسلمًا (23) .( وألحقني بالصالحين ) ، يقول:وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك .
* * *
وقيل:إنه لم يتمن أحدٌ من الأنبياء الموتَ قبل يوسف .
* ذكر من قال ذلك:
19940 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو , قال:حدثنا أسباط , عن السدي:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، الآية , كان ابن عباس يقول:(24) أول نبي سأل الله الموت يوسف.
19941 - حدثنا القاسم , قال:حدثنا الحسين , قال:حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال:قال ابن عباس , قوله:( رب قد آتيتني من الملك ) ... ، الآية , قال:اشتاق إلى لقاء ربه , وأحبَّ أن يلحق به وبآبائه , فدعا الله أن يتوفَّاه ويُلْحِقه بهم. ولم يسأل نبيّ قطّ الموتَ غير يوسف , فقال:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث) ، الآية،قال ابن جريج:في بعض القرآن من الأنبياء (25):"توفني"(26)
19942 -حدثنا بشر , قال:حدثنا يزيد , قال:حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله:( توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) ، لما جَمَع شمله , وأقرَّ عينه , وهو يومئذ مغموس في نَبْت الدنيا وملكها وغَضَارتها، (27) فاشتاق إلى الصالحين قبله . وكان ابن عباس يقول:ما تمنى نبي قطّ الموت قبل يوسف.
19943 - حدثني المثنى , قال:أخبرنا إسحاق , قال:أخبرنا عبد الله بن الزبير , عن سفيان , عن ابن أبي عروبة , عن قتادة , قال:لما جمع ليوسف شمله , وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربّه فقال:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) ،قال قتادة:ولم يتمنَّ الموت أحد قطُّ، نبي ولا غيره إلا يوسف.
19944 - حدثني المثنى , قال:حدثنا هشام , قال:حدثنا الوليد بن مسلم , قال:حدثني غير واحد , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد:أن يوسف النبي صلى الله عليه وسلم، لما جمع بينه وبين أبيه وإخوته , وهو يومئذ ملك مصر , اشتاق إلى الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق، فقال:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين )
19945 - حدثني المثنى , قال:أخبرنا إسحاق , قال:حدثنا هشام , عن مسلم بن خالد , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله:( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) ، قال:العِبَارة.
19946 - حدثت عن الحسين , قال:سمعت أبا معاذ , يقول:أخبرنا عبيد بن سليمان , قال:سمعت الضحاك يقول في قوله:( توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين ) ، يقول:توفني على طاعتك , واغفر لي إذا توفَّيتني.
19947 - حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال:قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته حين جمع الله له شمله , وردَّه على والده , وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة:يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، إلى قوله:إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. ثم ارعوى يوسف، وذكر أنّ ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب , فقال:( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلمًا وألحقني بالصالحين).
* * *
وذُكِر أن بَني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا , استغفر لهم أبوهم , فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم
* ذكر من قال ذلك:
19948 - حدثنا القاسم , قال:حدثنا الحسين , قال:حدثني حجاج , عن صالح المريّ , عن يزيد الرقاشي , عن أنس بن مالك , قال:إن الله تبارك وتعالى لما جمع ليعقوب شمله , وأقر عينه , خَلا ولده نَجِيًّا , فقال بعضهم لبعض:ألستم قد علمتم ما صنعتم، وما لقي منكم الشيخ، وما لقي منكم يوسف؟ قالوا:بلى! قال:فيغرُّكم عفوهما عنكم , فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه , ويوسف إلى جنب أبيه قاعدٌ , قالوا:يا أبانا، أتيناك في أمر لم نأتك في أمرٍ مثله قط، ونـزل بنا أمر لم ينـزل بنا مثله! حتى حرّكوه , والأنبياء أرحم البرية , فقال:مالكم يا بَني؟ قالوا:ألستَ قد علمت ما كان منا إليك، وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قال:بلى! قالوا:أفلستما قد عفوتُما؟ قالا بلى! قالوا:فإن عفوكما لا يغني عنّا شيئًا إن كان الله لم يعفُ عنا! قال:فما تريدون يا بني؟ قالوا:نريد أن تدعو الله لنا , فإذا جاءك الوحي من عند الله بأنه قد عفا عمّا صنعنا، قرّت أعيننا، واطمأنت قلوبنا , وإلا فلا قرّةَ عَين في الدنيا لنا أبدًا . قال:فقام الشيخ واستقبل القبلة , وقام يوسف خلف أبيه , وقاموا خلفهما أذلةً خاشعين . قال:فدعا وأمَّن يوسف، , فلم يُجَبْ فيهم عشرين سنة،قال صالح المرِّي:يخيفهم. قال:حتى إذا كان رأس العشرين، نـزل جبريل صلى الله عليه وسلم على يعقوب عليه السلام , فقال:إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك , وأنه قد عفا عما صنعوا , وأنه قد اعتَقَد مواثيقهم من بعدك على النبوّة. (28)
19949 - حدثني المثنى , قال:حدثنا الحارث , قال:حدثنا عبد العزيز , قال:حدثنا جعفر بن سليمان , عن أبي عمران الجوني , قال:والله لو كان قتلُ يوسف مضى لأدخلهم الله النارَ كُلَّهم , ولكن الله جل ثناؤه أمسك نفس يوسف ليبلغ فيه أمره، ورحمة لهم . ثم يقول:والله ما قصَّ الله نبأهم يُعيّرهم بذلك إنهم لأنبياء من أهل الجنة , ولكن الله قصَّ علينا نبأهم لئلا يقنط عبده.
* * *
وذكر أن يعقوب توفي قبل يوسف , وأوصى إلى يوسف وأمره أن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق .
* ذكر من قال ذلك:
19950 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال:لما حضر الموتُ يعقوبَ , أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق , فلما مات، نُفِخ فيه المُرّ وحمل إلى الشأم. قال:فلما بلغوا إلى ذلك المكان أقبل عيصا أخو يعقوب (29) فقال:غلبني على الدعوة , فوالله لا يغلبني على القبر! فأبى أن يتركهم أن يدفنوه . فلما احتبسوا، قال هشام بن دان بن يعقوب (30)،وكان هشامٌ أصمَّ لبعض إخوته:ما لجدّي لا يدفن! قالوا:هذا عمك يمنعه! قال:أرونيه أين هو؟ فلما رآه , رفع هشام يده فوجأ بها رأس العيص وَجْأَةً سقطت عيناه على فخذ يعقوب، فدفنا في قبر واحد.
----------------------
الهوامش:
(20) انظر تفسير"التأويل"فيما سلف ص:271 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(21) انظر تفسير"فاطر"فيما سلف 15:357 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .
(22) انظر تفسير"الولي"فيما سلف من فهارس اللغة ( ولي ) .
(23) انظر تفسير"التوفي"فيما سلف 15:218 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(24) في المطبوعة والمخطوطة:"قال ابن عباس يقول"، وبين صواب ما أثبت ، وانظر الخبر التالي رقم:19942 .
(25) في المخطوطة:"في بعض القرآن قد قال الأنبياء توفني"، وصوابها ما أثبت ، أما المطبوعة فقد كتبت:"في بعض القرآن من الأنبياء من قال توفني"، غير مكان الكلام لغير حاجة .
(26) لم أجد للذي قاله ابن جريج دليلا في القرآن ! فلعله وهم ، فإن النهي عن تمني الموت صريح في السنة .
(27) في المطبوعة:"مغموس في نعيم الدنيا"، وفي المخطوطة:"مغموس في نعيم الدنيا"غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها . وعنى بالنبت هنا:المال الكثير الوفير ، والنعمة النامية ، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم من العرب:أنتم أهل بيت أو نبت ؟ فقالوا نحن أهل بيت وأهل نبت . وقالوا في تفسيره:أي نحن في الشرف نهاية ، وفي النبت نهاية ، أي:ينبت المال على أيدينا
وهذا الذي قلته أصح في تأويل الحديث ، وفي تأويل هذا الخبر .
(28) الأثر:19948 -"صالح المري"، هو"صالح بن بشير بن وداع المري"، منكر الحديث ، قاص متروك الحديث ، مضى برقم:9234 .
و"يزيد الرقاشي"، هو"يزيد بن أبان الرقاشي"، قاص ، متروك الحديث ، مضى قبل مرارًا ، آخرها:11408 .
وهذا خبر هالك ، من جراء هذين القاصين المتروكين ، صالح المري ، ويزيد الرقاشي .
(29) في المطبوعة:"عيص"، وأثبت ما في المخطوطة ، وسيأتي بعد:"العيص"، بالتعريف ، وهو في كتاب القوم"عيسو"، وهو ولد إسحاق الأكبر ، وهو أخو يعقوب .
(30) في المطبوعة:"هشام بن دار"، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وولد يعقوب في كتاب القوم هو"دان"كما أثبته .
و"هشام"هذا ، هو في كتاب القوم"حوشيم"