القول في تأويل قوله تعالى:قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:(قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، يعنون أخاه لأبيه وأمه، وهو يوسف، كما:-
19596- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، ليوسف.
19597- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .
19598- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قوله:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال:يعني يوسف.
19599- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد:(فقد سرق أخ له من قبل) ، قال:يوسف.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في"السَّرَق "الذي وصفُوا به يوسف.
فقال بعضهم:كان صنمًا لجده أبي أمه، كسره وألقاء على الطريق .
*ذكر من قال ذلك:
19600- حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا الفيض بن الفضل قال، حدثنا مسعر , عن أبي حصين , عن سعيد بن جبير:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال:سرق يوسف صَنَمًا لجده أبي أمه، كسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك. (30)
19601- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة:(فقد سرق أخ له من قبل) ذكر أنه سرق صنمًا لجده أبي أمه , فعيَّروه بذلك.
19602- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل):أرادوا بذلك عيبَ نبيّ الله يوسف. وسرقته التي عابوه بها، صنم كان لجده أبي أمه , فأخذه , إنما أراد نبيُّ الله بذلك الخير , فعابوه.
19603- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج في قوله:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) ، قال:كانت أمّ يوسف أمرت يوسف يسرق صنمًا لخاله يعبده , وكانت مسلمةً.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:-
19604- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي قال:كان بنو يعقوب على طعام , إذْ نظرَ يوسف إلى عَرْق فخبأه , (31) فعيّروه بذلك (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل). (32)
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
19605- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق , عن عبد الله بن أبي نجيح , عن مجاهد أبي الحجاج قال:كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء، فيما بلغني أن عَمَّته ابنة إسحاق , وكانت أكبر ولد إسحاق , وكانت إليها [صارت] منطقة إسحاق (33) وكانوا يتوارثونها بالكبر , فكان من اختانها ممن وليها (34) كان له سَلَمًا لا ينازع فيه , (35) يصنع فيه ما شاء . وكان يعقوب حين وُلِد له يوسف , كان قد حضَنه عَمَّتَهُ (36) فكان معها وإليها , فلم يحبَّ أحدٌ شيئًا من الأشياء حُبَّهَا إياه . حتى إذا ترعرع وبلغ سنواتٍ , ووقعت نفس يعقوب عليه , (37) أتاها فقال، يا أخيَّة سلّمي إليّ يوسف , فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة ! قالت:فوالله ما أنا بتاركته , (38) والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة ! (39) قال:فوالله ما أنا بتاركه ! قالت:فدعه عندي أيامًا أنظرْ إليه وأسكن عنه , لعل ذلك يسلّيني عنه ،أو كما قالت . فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى مِنْطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه , ثم قالت:لقد فقدت مِنْطقة إسحاق , فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتُمِسَتْ , ثم قالت:كشِّفوا أهل البيت ! (40) فكشفوهم , فوجدوها مع يوسف , فقالت:والله إنه لي لسَلَمٌ، أصنع فيه ما شئت . قال:وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر , فقال لها:أنت وذاك إن كان فعل ذلك، فهو سَلَمٌ لك , ما أستطيع غير ذلك . فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت . قال:فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) . (41)
،قال ابن حميد. قال ابن إسحاق:لما رأى بنو يعقوب ما صنع إخْوة يوسف , ولم يشكُّوا أنه سرق، قالوا ،أسفًا عليه، لما دخل عليهم في أنفسهم (42) تأنيبًا له:(إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) . فلما سمعها يوسف قال:(أنتم شر مكانًا) ، سِرًّا في نفسه (ولم يبدها لهم)، (والله أعلم بما تصفون).
* * *
وقوله:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، يعني بقوله:(فأسرها)، فأضمرها. (43)
* * *
وقال:(فأسرها) فأنث , لأنه عنى بها "الكلمة ",وهي:(أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) . ولو كانت جاءت بالتذكير كان جائزًا , كما قيل:تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ[سورة هود:49] ، وذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى، [سورة هود:100]
* * *
وكنى عن "الكلمة ". ولم يجر لها ذكر متقدِّم. والعرب تفعل ذلك كثيرًا , إذا كان مفهومًا المعنى المرادُ عند سامعي الكلام . وذلك نظير قول حاتم الطائي:
أَمَـاوِيَّ مَـا يُغْنِـي الـثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى
إِذَا حَشْـرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بهَا الصَّدْرُ (44)
يريد:وضاق بالنفس الصدر ،فكنى عنها ولم يجر لها ذكر , إذ كان في قوله:"إذا حشرَجَت يومًا ",دلالة لسامع كلامه على مراده بقوله:"وضاق بها ". ومنه قول الله:ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة النحل:110] ، فقال:"من بعدها "، ولم يجر قبل ذلك ذكر لاسم مؤنث .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك:
19606- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ، أما الذي أسرَّ في نفسه فقوله:(أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون).
19607- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، قال هذا القول.
19608- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ، يقول:أسرَّ في نفسه قوله:(أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون).
* * *
وقوله:(والله أعلم بما تصفون) ، يقول:والله أعلم بما تكذبون فيما تصفون به أخاه بنيامين . (45)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
*ذكر من قال ذلك:
19609- حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قوله:(أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون) ، يقولون:يوسف يقوله.
19610- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .
19611- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .
19612- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة:(والله أعلم بما تصفون) ، أي:بما تكذبون.
* * *
قال أبو جعفر:فمعنى الكلام إذًا:فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، قال:أنتم شرّ عند الله منـزلا ممن وصفتموه بأنه سرق , وأخبث مكانًا بما سلف من أفعالكم , والله عالم بكذبكم , وإن جهله كثيرٌ ممن حضرَ من الناس .
* * *
وذكر أن الصّواع لما وُجد في رحل أخي يوسف تلاوَمَ القوم بينهم , كما:-
19613- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي قال:لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم , وقالوا:يا بني راحيل , ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذت هذا الصوع؟ (46) فقال بنيامين:بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء , ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية! وضَع هذا الصواع في رحلي، الذي وضع الدراهم في رحالكم! فقالوا:لا تذكر الدراهم فنؤخذ بها! فلما دخلوا على يوسف دعا بالصواع فنقرَ فيه , ثم أدناه من أذنه , ثم قال، إن صواعى هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم فبعتموه . فلما سمعها بنيامين , قام فسجد ليوسف , ثم قال، أيها الملك , سل صواعك هذا عن أخي، أحيٌّ هو؟ (47) فنقره , ثم قال، هو حيٌّ , وسوف تراه . قال، فاصنع بي ما شئت , فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني . قال، فدخل يوسف فبكى , ثم توضَّأ , ثم خرج فقال بنيامين:أيها الملك إني أريد أن تضرب صُواعك هذا فيخبرك بالحقّ , فسله من سرقه فجعله في رحلي؟ فنقره فقال:إن صواعي هذا غضبان , وهو يقول:كيف تسألني مَنْ صاحبي , (48) وقد رأيتَ مع من كنت؟ (49) قال:وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقُوا , فغضب روبيل , وقال:أيها الملك , والله لتتركنا أو لأصيحنَّ صيحة لا يبقى بمصر امرأةٌ حامل إلا ألقت ما في بطنها ! وقامت كل شعرة في جسد رُوبيل , فخرجت من ثيابه , فقال يوسف لابنه:قم إلى جنب روبيل فمسَّه. وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسَّه الآخر ذهب غضبه , فمر الغلام إلى جنبه فمسَّه , فذهب غضبه , فقال روبيل:مَنْ هذا؟ إن في هذا البلد لبَزْرًا من بَزْر يعقوب! (50) فقال يوسف:من يعقوب؟ فغضب روبيل فقال:يا أيها الملك لا تذكر يعقوب , فإنه سَرِيُّ الله , (51) ابن ذبيح الله , ابن خليل الله . قال يوسف:(52) أنت إذًا كنت صادقًا. (53)
----------------------
الهوامش:
(30) الأثر:19600"أحمد بن عمرو البصري"، شيخ الطبري ، مضى برقم:9875 ، 13928 ، والكلام عنه في الرقم الأول .
و"الفيض بن الفضل البجلي الكوفي"، مترجم في الكبير 4 / 1 / 140 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 88 ، ولم يذكرا فيه جرحًا . وكان في المطبوعة:"العيص"وأخطأ لأن المخطوطة واضحة هناك كما أثبتها . وهذا الخبر ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1:182 .
(31) في المطبوعة والمخطوطة:"اضطر يوسف إلى عرق"، وهو خطأ محض ، وإنما وصل الكاتب"إذ"بقوله بعده"نظر". و"العرق"( بفتح فسكون ):العظم عليه اللحم . فإن لم يكن عليه لحم ، فهو"عراق"( بضم العين ) .
(32) الأثر:19604 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1:182 ، مطولا .
(33) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري .
(34) في المطبوعة:"فكان من اختص بها"، غير ما في المخطوطة ، فأفسد الكلام وأسقطه . والصواب منها ومن التاريخ ."اختانها"، سرقها .
(35) "السلم"( بفتحتين ) انقياد المذعن المستخذى ، كالأسير الذي لا يمتنع ممن أسره ، يقال:"أخذه سلمًا"، إذا أسره من غير حرب ، فجاء به منقادًا لا يمتنع .
(36) في المطبوعة:"قد كان حضنته عمته"، وأثبت ما في التاريخ . وأما المخطوطة ، فهي غير منقوطة .
وقوله:"حضنه عمته"فهو هنا فعل متعد إلى مفعولين ، وليس هذا المتعدي مما ذكرته كتب اللغة . وإنما ذكر"حضنت المرأة الصبي"، إذا وكلت به تحفظه وتربيه ، وهي"الحاضنة"، تضم إليها الطفل فتكفله . وهذا المتعدي إلى مفعولين ، صحيح عريق في قياس العربية ، بمعنى:أعطاها إياه لتحضنه . وهذا مما يزاد عليها إن شاء الله .
(37) في والمطبوعة المخطوطة:"وقعت"بغير واو ، والصواب إثباتها ، كما في تاريخ الطبري وقوله:"وقعت نفسه عليه"، أي اشتاق إليه شديدا . وهذا مجاز لم تذكره معاجم اللغة ، وهو في غاية الحسن والدقة وبلاغة الأداء عن النفس وانظر بعد قوله:"ما أقدر على أن يغيب عني ساعة"، فهو دليل على المعنى الذي استظهرته .
(38) في المطبوعة:"فقالت:والله ..."غير ما في المخطوطة ، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري أيضًا .
(39) قولها:"والله ما أقدر ..."، ليست في تاريخ الطبري ، فهي زيادة في المخطوطة .
(40) في المطبوعة:"اكشفوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ .
(41) الأثر:19605 - إلى هذا الموضع ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1:170 .
(42) في المطبوعة والمخطوطة:"أسفًا عليهم"، وهو لا يكاد يستقيم ، وكان في المخطوطة أيضًا:"في أنفسنا"، فصححها في المطبوعة ، وأصاب .
(43) انظر تفسير"الإسرار"فيما سلف ص:7 ، تعليق ، والمراجع هناك .
(44) ديوانه:39 ، وغيره ، من قصيدته المشهورة ، يقول بعده ، وهو من رائع الشعر:
إذَا أنَــا دَلاَّنــي الَّــذِينَ أُحِــبُّهُمْ
بِمَلْحُــودةٍ زَلْــخٍ , جَوَانِبُهَـا غُـبْرُ
وَرَاحُــوا عِجَـالاً ينفُضُــونَ أكُـفَّهُمْ
يَقُولُـونَ:قَـدْ دَمَّـى أَنَامِلَنَـا الحفْرُ !
.
"ملحودة"، يعني قبرًا قد لحد له . و"زلخ"، ملساء ، يزل نازلها فيتردى فيها .
(45) انظر تفسير"الوصف"فيما سلف:15:586 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(46) في المطبوعة:"حتى أخذت"، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(47) في التاريخ:"أين هو"، ولكنه في المخطوطة:"أحي هو".
(48) في المطبوعة:"عن صاحبي"، والصواب من المخطوطة والتاريخ .
(49) في المطبوعة وحدها:"وقد رؤيت".
(50) "البزر"( بفتح فسكون ) ، الولد . يقال:"ما أكثر بزره"، أي:ولده .
(51) في التاريخ:"إسرائيل الله"، وكأن الذي في التفسير هو الصواب ، لأن"إيل"بمعنى"الله"، و"إسرا"، يضاف إليه ، وكأن"إسرا"، بمعنى"سرى"، وهو بمعنى المختار ، كأنه:"صفي الله"الذي اصطفاه . وفي تفسير ذلك اختلاف كثير .
(52) في المطبوعة ، حذف"إن"من قوله:"إن كنت صادقًا".
(53) الأثر:19613 - رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا 1:182 ، 183 .