بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ الزَّاعِمُونَ{ لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وَلَكِنْ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن , فَهُوَ الَّذِي يَدْخُلهَا وَيُنَعَّم فِيهَا . كَمَا:1498 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ:ثنا عَمْرو , قَالَ:ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ:أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة هُوَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ الْآيَة . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى{ بَلَى} فِيمَا مَضَى قَبْل . وَأَمَّا قَوْله:{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} فَإِنَّهُ يَعْنِي بِإِسْلَامِ الْوَجْه التَّذَلُّل لِطَاعَتِهِ وَالْإِذْعَان لِأَمْرِهِ . وَأَصْل الْإِسْلَام:الِاسْتِسْلَام ; لِأَنَّهُ مِنْ اسْتَسْلَمْت لِأَمْرِهِ , وَهُوَ الْخُضُوع لِأَمْرِهِ . وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُسْلِم مُسْلِمًا بِخُضُوعِ جَوَارِحه لِطَاعَةِ رَبّه . كَمَا:1499 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ:ثنا إسْحَاق , قَالَ:ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} يَقُول:أَخْلَص لِلَّهِ . وَكَمَا قَالَ زَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل:وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمْت لَهُ الْمُزْن تَحْمِل عَذْبًا زُلَالًا يَعْنِي بِذَلِكَ:اسْتَسْلَمْت لِطَاعَةِ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِطَاعَتِهِ الْمُزْن وَانْقَادَتْ لَهُ . وَخَصَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} بِإِسْلَامِ وَجْهه لَهُ دُون سَائِر جَوَارِحه ; لِأَنَّ أَكْرَم أَعْضَاء ابْن آدَم وَجَوَارِحه وَجْهه , وَهُوَ أَعْظَمهَا عَلَيْهِ حُرْمَة وَحَقًّا , فَإِذَا خَضَعَ لِشَيْءِ وَجْهه الَّذِي هُوَ أَكْرَم أَجْزَاء جَسَده عَلَيْهِ فَغَيْره مِنْ أَجْزَاء جَسَده أَحْرَى أَنْ يَكُون أَخْضَع لَهُ . وَلِذَلِكَ تَذْكُر الْعَرَب فِي مَنْطِقهَا الْخَبَر عَنْ الشَّيْء فَتُضِيفهُ إلَى وَجْهه وَهِيَ تَعْنِي بِذَلِكَ نَفْس الشَّيْء وَعَيْنه , كَقَوْلِ الْأَعْشَى:أُؤَوِّل الْحُكْم عَلَى وَجْهه لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِر يَعْنِي بِقَوْلِهِ:"عَلَى وَجْهه ":عَلَى مَا هُوَ بِهِ مِنْ صِحَّته وَصَوَابه . وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّة:فَطَاوَعْت هَمِّي وَانْجَلَى وَجْه بَازِل مِنْ الْأَمْر لَمْ يَتْرُك خِلَاجًا بِزَوْلِهَا يُرِيد:"وَانْجَلَى الْبَازِل مِنْ الْأَمْر فَتَبَيَّنَ ",وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ , إذْ كَانَ حُسْن كُلّ شَيْء وَقُبْحه فِي وَجْهه , وَكَانَ فِي وَصْفهَا مِنْ الشَّيْء وَجْهه بِمَا تَصِفهُ بِهِ إبَانَة عَنْ عَيْن الشَّيْء وَنَفْسه . فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} إنَّمَا يَعْنِي:بَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ بَدَنه , فَخَضَعَ لَهُ بِالطَّاعَةِ جَسَده ;{ وَهُوَ مُحْسِن} فِي إسْلَامه لَهُ جَسَده ,{ فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه} . فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْوَجْه مِنْ ذِكْر جَسَده لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بِذِكْرِ الْوَجْه .
وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَأَمَّا قَوْله:{ وَهُوَ مُحْسِن} فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ فِي حَال إحْسَانه . وَتَأْوِيل الْكَلَام:بَلَى مَنْ أَخْلَص طَاعَته لِلَّهِ وَعِبَادَته لَهُ مُحْسِنًا فِي فِعْله ذَلِكَ .
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه} . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلّ ثَنَاؤُهُ:{ فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه} فَلِلْمُسْلِمِ وَجْهه لِلَّهِ مُحْسِنًا جَزَاؤُهُ وَثَوَابه عَلَى إسْلَامه وَطَاعَته رَبّه عِنْد اللَّه فِي مُعَاده .
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ:{ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ} عَلَى الْمُسْلِمِينَ وُجُوههمْ لِلَّهِ وَهُمْ مُحْسِنُونَ , الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين فِي الْآخِرَة مِنْ عِقَابه وَعَذَاب جَحِيمه , وَمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالهمْ .
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ:{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَفُوا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا , وَلَا أَنْ يَمْنَعُوا مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ نَعِيم مَا أَعَدَّ اللَّه لِأَهْلِ طَاعَته . وَإِنَّمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ:{ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَدْ قَالَ قَبْل:{ فَلَهُ أَجْره عِنْد رَبّه} لِأَنَّ "مَنْ "الَّتِي فِي قَوْله:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ} فِي لَفْظ وَاحِد وَمَعْنَى جَمِيع , فَالتَّوْحِيد فِي قَوْله:{ فَلَهُ أَجْره} لِلَّفْظِ , وَالْجَمْع فِي قَوْله:{ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ} لِلْمَعْنَى .