القول في تأويل قوله:وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
قال أبو جعفر:يعني بذلك جل ثناؤه بقوله:"ويقولون طاعة "، يعني:الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا الناس كخشية الله أو أشد خشية، يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر:أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ="وإذا برزوا من عندك "، يقول:فإذا خرجوا من عندك، (2) يا محمد ="بيّت طائفة منهم غير الذي تقول "، يعني بذلك جل ثناؤه:غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم.
وكل عمل عُمِل ليلا فقد "بُيِّت "، ومن ذلك "بيَّت "العدو، وهو الوقوع &; 8-563 &; بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام:(3)
أَتَــوْنِي فَلَــمْ أَرْضَ مَــا بَيَّتُـوا,
وَكَــانُوا أَتَــوْنِي بِشَــيْءٍ نُكُــرْ (4)
لأنْكِــــحَ أَيِّمَهُــــمْ مُنْـــذِرًا,
وَهَــلْ يُنْكِـحَ الْعَبْـدَ حُـرٌّ لِحُـرْ?! (5)
يعني بقوله:"فلم أرض ما بيتوا "، ليلا أي:ما أبرموه ليلا وعزموا عليه،
ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ:
هَبَّـتْ لِتَعْـذُلَنِي مِـنَ اللَّيْـل اسْـمَعِ!
سَــفَهًا تُبَيِّتُــكِ المَلامَـةُ فَـاهْجَعِي (6)
يقول الله جل ثناؤه:"والله يكتب ما يبيتون "، يعني بذلك جل ثناؤه:والله يكتب ما يغيِّرون من قولك ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9980 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول "، قال:يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:
9981 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"بيّت طائفة منهم غير الذي تقول "، قال:غيَّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9982 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول "، قال:غيّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9983 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون)، قال:هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا:"طاعة "، فإذا &; 8-565 &; خرجوا من عنده، غيّرت طائفة منهم ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ="والله يكتب ما يبيتون "، يقول:ما يقولون.
9984 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول "، قال:يغيرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9985 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول "، وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمنا بالله ورسوله "، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (7) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله، فقال:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول "، يقول:يغيرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9986 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول "، هم أهل النفاق.
* * *
وأما رفع "طاعة "، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول وهو:أمرُك طاعة، أو:منا طاعة. (8) وأما قوله:"بيت طائفة "، فإن "التاء "من "بيّت "تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة والعراق وسائر القرأة، لأنها لام "فَعَّل ".
* * *
وكان بعض قرأة العراق يسكّنها، ثم يدغمها في"الطاء "، لمقاربتها في المخرج (9) .
قال أبو جعفر:والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام، لأنها = أعني"التاء "و "الطاء "= من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك، كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزةٌ = أعني الإدغام في ذلك = محكيّةٌ.
* * *
القول في تأويل قوله:فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81)
قال أبو جعفر:يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فأعرض "، يا محمد، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم:"أمرك طاعة "، (10) فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به، وغيَّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقمًا منهم ="وتوكل "أنت يا محمد ="على الله "، يقول:وفوِّض أنت أمرك إلى الله، وثق به في أمورك، وولِّها إياه (11) ="وكفى بالله وكيلا "، يقول:وكفاك بالله = أي:وحسبك بالله ="وكيلا "، أي:فيما يأمرك، ووليًّا لها، ودافعًا عنك وناصرًا. (12)
----------------
الهوامش:
(2) انظر تفسير"برز"فيما سلف 5:354 / 7:324.
(3) عبيدة بن همام ، أخو بني العدوية ، من بني مالك بن حنظلة ، من بني تميم ، وظنه ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة"عبيدة بن همام التغلبي"، وكلا ، فهذا إسلامي ، وذلك جاهلي! واستظهرت من نسب"يعلى بن أمية"في جمهرة الأنساب:217 ، وغيرها أنه"عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وخبر هذا الشعر دال على أنه جاهلي ، فقد ذكر الجاحظ في الحيوان 4:376 خبر هذه الأبيات ، في خبر للنعمان بن المنذر ومثالبه ، وذلك أن أخاه المنذر بن المنذر خطب إلى عبيدة بن همام ، فرده أقبح الرد ، وذكر الأبيات.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1:133 ، الحيوان 4:376 ، الكامل 2:35 ، 106 ، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1:263 ، ديوان الأسود بن يعفر لنهشلي ، أعشى بني نهشل ، في ديوان الأعشين:298 ، اللسان (نكر). وروى:"فقد طرقوني بشيء".
"طرقوني":أتوني ليلا. و"نكر"بضمتين ، مثل"نكر"بضم فسكون:الأمر المنكر الذي تنكره. والبيت يتممه الذي بعده.
(5) "الأيم"من النساء ، التي لا زوج لها ، بكرًا كانت أو ثيبًا. و"رجل أيم"، لا زوجة له. و"منذر"يعني:المنذر بن المنذر ، أخا النعمان بن المنذر. وقوله:"هل ينكح العبد حر لحر"أي:هل ينكح الحر الذي ولدته الأحرار ، عبدًا من العبيد ، وذلك تعريض منه بالمنذر وأخيه النعمان ، الذي جعل امرأته ظئرًا لبعض ولد كسرى ، وسماه كسرى"عبدًا". وقوله:"حر لحر"، أي:حر قد ولدته الأحرار ، كما تقول:"هو كريم لكرام ، وحر لأحرار"، اللام فيه للنسب ، كأنه قال:كريم ينسب إلى آباء كرام ، وحر ينسب إلى آباه أحرار. وهذا الذي قلته لا تجده في كتاب ، فاحفظه.
وكان في المخطوطة:"لأنكح إليهم منذرًا"، وهو فاسد جدًا كما ترى ، وفيها أيضًا:"حر بحر"، والصواب ما أثبت.
(6) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1:133 ، والخزانة 1:153 ، والعيني (بهامش الخزانة) 2:536 ، وشرح شواهد المغني:161 ، وغيرها. وكان في المطبوعة:"بليل اسمع"، وهو خطأ ، ومثله في المخطوطة:"بليل اسمع"، ولكني أثبت رواية أبي عبيدة فهي أجود الروايات.
وقوله:"اسمع"، هذا قول امرأته أو أمه التي كانت تلومه على الكرم والسخاء. ويعني بذلك أنها كانت تكثر من مقالة"اسمع ، واسمع مني". وقوله:"سفها"، أي باطلا وخفة عقل. وقوله"تبيتك الملامة"ليس من معنى ما أراد الطبري ، وإن كان الشراح قد فسروه كذلك. وهو عندي من قولهم:"بات الرجل"إذا سهر ، ومنه:"بت أراعي النجوم"، أي سهرت أنظر إليها ، فقوله:"تبيتك الملامة"، أي تسهرك ملامتي وعتابي ، يقول:سهرك المضني هذا من السفه ، فنامى واهجعي ، فهو أروح لك!
فاستشهاد أبي عبيدة ، والطبري على أثره ، بهذا البيت ، ليس في تمام موضعه ، وإن كان الأمر قريب بعضه من بعض.
(7) في المطبوعة:"فإذا برزوا"بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8) انظر معاني القرآن للفراء 1:378.
(9) انظر معني القرآن للفراء 1:379.
(10) انظر تفسير"الإعراض"فيما سلف 2:298 ، 299 / 6:291 / 8:88.
(11) انظر تفسير"التوكل"فيما سلف:7:346.
(12) انظر تفسير"الوكيل"فيما سلف 7:405.