القول في تأويل قوله:وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قال أبو جعفر:يعني بقوله:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولا تجلسوا بكل طريق = وهو "الصراط"= توعدون المؤمنين بالقتل. (18)
* * *
وكانوا ، فيما ذكر ، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه ، ويقولون:إنه كذاب!
* ذكر من قال ذلك:
14843-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،عن قتادة:( بكل صراط توعدون ) ، قال:كانوا يوعدون مَنْ أتى شعيبًا وغشِيَه فأراد الإسلام.
14844-حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، و "الصراط"، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا.
14845-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله ) ، قال:كانوا يجلسون في الطريق ، فيخبرون مَنْ أتى عليهم:أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:( بكل صراط ) ، قال:طريق=(توعدون) ، بكل سبيل حق. (19)
14846-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
14847-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين.
14848-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن السدي:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، قال:العشَّارُون.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره= شكأبو جعفر الرازي = قال:أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْرِي به على خشبة على الطريق ، لا يمرُّ بها ثوبٌ إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال:ما هذا يا جبريل ؟ ، قال:هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه! ثم تلا( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون). (20)
* * *
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة ، يدلّ على أن معناه كان عند أبي هريرة:أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع الطريق.
* * *
وقيل:( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ) ، ولو قيل في غير القرآن:"لا تقعدوا في كلّ صراط"، كان جائزًا فصيحًا في الكلام ، وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما جاز أن يقال:"قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا ".
* * *
وقال:( توعدون ) ، ولم يقل:"تَعِدُون "، لأن العرب كذلك تفعل فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول:"أوعدته "بالألف ،"وتقدَّم مني إليهوعيد "، فإذا بينت عما أوعدت وأفصحت به، (21) قالت:"وعدته خيرًا "، و "وعدته شرًّا "، بغير ألف، كما قال جل ثناؤه:النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، [سورة الحج:72].
* * *
وأما قوله:( وتصدون عن سبيل الله من آمن به ) ، فإنه يقول:وتردُّون عن طريق الله ، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته (22) =(من آمن به)، يقول:تردُّون عن طريق الله مَنْ صدق بالله ووحّده=( وتبغونها عوجًا ) ، يقول:وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته (23) =(عوجًا) ، عن القصد والحق ، إلى الزيغ والضلال ، (24) كما:-
14849-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( وتصدون عن سبيل الله ) ، قال:أهلها=( وتبغونها عوجًا ) ، تلتمسون لها الزيغ.
14850-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
14851-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:( وتبغونها عوجًا ) ، قال:تبغون السبيل عن الحق عوجًا.
14852-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:( وتصدون عن سبيل الله ) ، عن الإسلام= تبغون السبيل=( عوجًا ) ، هلاكًا.
* * *
وقوله:( واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ) ، يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثّرَ جماعتهم بعد أن كانوا قليلا عددهم، وأنْ رَفعهم من الذلة والخساسة ، يقول لهم:فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك ، وأخلصوا له العبادة، واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية ،=(وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) ، يقول:وانظروا ما نـزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله، من المَثُلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه؟ (25) ألم يُهلك بعضهم غرقًا بالطوفان ، وبعضهم رجمًا بالحجارة ، وبعضهم بالصيحة؟
* * *
و "الإفساد "، في هذا الموضع ، معناه:معصية الله. (26)
-------------------
الهوامش:
(18) انظر تفسير"الصراط"فيما سلف 1:170- 177 ، ثم فهارس اللغة (سرط).
(19) في المطبوعة:حذف"قال:طريق"، وغير سائر العبارة فكتب:"توعدون كل سبيل حق"، فأفسد الكلام إفسادًا!! والصواب من المخطوطة.
(20) الأثر:14853- هذا مختصر من أثر طويل ، سيرويه أبو جعفر بهذا الإسناد في تفسير"سورة الإسراء"15:6 (بولاق) ، وسيأتي تخريجه هناك.
و"أبو جعفر الرازي"و"الربيع بن أنس"، و"أبو العالية"، ثقات جميعًا ، ومضوا في مواضع مختلفة.
وهذا الخبر ذكره الهيثمي مطولا في مجمع الزوائد 1:67- 72 وقال:"رواه البزار ورجاله موثقون ، إلا أن الربيع بن أنس قال:عن أبي العالية أو غيره ، فتابعيه مجهول".
ولكن نص أبي جعفر هنا وهناك ، يدل على أن أبا جعفر الرازي شك في أنه عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة ، فلعل ما في رواية البزار مخالف لما في رواية أبي جعفر الطبري.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 4:144 مطولا ، ونسبه إلى البزار ، وأبي يعلي ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل.
(21) في المخطوطة:(( فإذا نصب عما أوعدت"غير منقوطة ، ولم أحسن توجيه قراءتها ، فتركت ما في المطبوعة على حاله ، إذ كان صوابًا واضحًا. 1 ، وانظر معاني القرآن للفراء 1:385.
(22) انظر تفسير"الصد"فيما سلف ص:448 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك.
(23) انظر تفسير"بغى"فيما سلف ص:448 ، تعليق:3 ، والمراجع هناك.
(24) انظر تفسير"العوج"فيما سلف 7:54/ 12:448.
(25) انظر تفسير"العاقبة"فيما سلف 11:272 ، 273/ 12:129.
(26) انظر تفسير"الإفساد"فيما سلف ص:556 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك.