باب تزويج الزانية
قال الله تعالى:{ الزّاني لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلك عَلَى المُؤْمِنِينَ} . قال أبو بكر:روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدنية ، وكان بمكة بَغِيٌّ يقال لها عناق وكانت صديقة له ، وكان وعد رجلاً أن يحمله من أسرى مكة ، وإن عناقاً رأته فقالت له:أقم الليلة عندي ! قال:يا عناق قد حرم الله الزنا ! فقالت:يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم ! فلما قدمتُ المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله أتزوّج عناق ؟ فلم يردّ عليّ حتى نزلت هذه الآية:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَنْكَحْهَا ! ". فبين عمرو بن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زَانٍ أو مشرك ، وأن تزوُّجَ المسلم المشركة زِناً إذْ كانت لا تحل له .
وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها ، فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال:حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال:حدثنا أبو عبيد قال:حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى:{ الزّاني لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}:قد نسختها الآية التي بعدها:{ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} قال:كان يقال هي من أيامَى المسلمين ؛ فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة . قال أبو عبيد:وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: "كان رجال يريدون الزنا بنساء زوانٍ بغايا مُعْلِنَاتٍ كنّ كذلك في الجاهلية ، فقيل لهم هذا حرام ، فأرادوا نكاحهن "؛ فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساءٍ مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا . ورُوي عن عبدالله بن عمر في قوله:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}"أنه نزل في رجل تزوج امرأة بَغِيَّةً على أن تنفق عليه "، فأخبر عبدالله بن عمر أن النهي خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخلّيها والزنا . وروى حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "يعني بالنكاح جماعها ". وروى ابن شبرمة عن عكرمة:{ الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: "لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله ". وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس: "بغايا كنَّ في الجاهلية يجعلن على أبوابهن راياتٍ كرايات البياطرة يأتيهنّ ناسٌ ، يُعرفن بذلك ". وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}: "يعني به الجماع حين يزني "، وعن عروة بن الزبير مثله .
قال أبو بكر:فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك ، فإذا كان الرجل زانياً فالمرأة مثله إذا طاوعته ، وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها ؛ فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في الزنا ، ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحدّ وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك . ورُوي فيه قول آخر ، وهو ما رَوَى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال: "المحدود لا يتزوج إلا محدودة ".
واختلف السلف في تزويج الزانية ، فرُوي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين: "أن من زَنَى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها ". ورُوي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود: "أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا ". وعن علي: "إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته ، وكذلك هي إذا زنت ".
قال أبو بكر:فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية ، وفقهاءُ الأمصار متّفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما ، ولا يخلو قوله تعالى:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} من أحد وجهين:إما أن يكون خبراً وذلك حقيقته أو نهياً وتحريماً ؛ ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد ، وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنّا وجدنا زانياً يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني ، فعلمنا أنه لم يَرِدْ مورد الخبر ، فثبت أنه أراد الحكم والنهي . فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء أو العقد ، وحقيقةُ النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بينّاه في مواضع ، فوجب أن يكون محمولاً عليه على ما رُوي عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ، ولا يُصرف إلى العقد إلا بدلالة ؛ لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أُريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه . وأيضاً فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجباً للفرقة ، إذ كانا جميعاً موصوفين بأنهما زانيان ؛ لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية ، فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زَنَى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما في حال الزوجية يوجب الفرقة ، ولا نعلم أحداً يقول ذلك ؛ وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة الزانية أن تتزوج مشركاً ، ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرَّمٌ منسوخ ، فدلّ ذلك على أحد معنيين:إما أن يكون المراد الجماع على ما رُوي عن ابن عباس ومن تابعه ، أو أن يكون حكم الآية منسوخاً على ما رُوي عن سعيد بن المسيب .
ومن الناس من يحتجّ في أن الزنا لا يبطل النكاح بما رَوَى هارون بن رئاب عن عبيدالله بن عبيدويرويه عبدالكريم الجزري عن أبي الزبير ، وكلاهما يرسلهأن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:إن امرأتي لا تمنع يد لامس ، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع منها ، فيحمل ذلك على أنه لا تمنع أحداً ممن يريدها على الزنا . وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل ، قالوا:لو صحّ هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق ، قالوا:وهذا أوْلى ؛ لأنه حقيقة اللفظ ، وحمله على الوطء كناية ومجاز ، وحمله على ما ذكرنا أوْلى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال عليّ وعبدالله:إذ جاءكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنّوا به الذي هو أَهْدَى والذي هو أَهْنَا والذي هو أتْقَى .
فإن قيل:قال الله تعالى:{ أو لمستم النساء} [ النساء:43] فجعل الجماع لمساً . قيل له:إن الرجل لم يقلْ للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنها لا تمنع لامساً ، وإنما قال يَدَ لامس ، ولم يقل فرج لامس ؛ وقال الله تعالى:{ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم} [ الأنعام:7] ، ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد ؛ وقال جرير الخطفي يعاتب قوماً:
* أَلَسْتُمْ لِئَاماً إِذْ تَرُومُونَ جَارَهُمْ * ولَوْلا هُمُو لم تَمْنَعُوا كَفَّ لامِسِ *
ومعلوم أنه لم يُرِدْ به الوطء وإنما أراد أنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضَّيْمَ ومنع أموالكم هؤلاء القوم ، فكيف ترومون جارهم بالظلم ! .
ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهيٌّ عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح ؛ لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله:{ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [ المائدة:5] يعني العفائف منهن ؛ ولأنها إذا كانت كذلك لا يُؤْمَنُ أن تأتي بولد من الزنا فتُلْحِقه به وتورثه ماله ، وإنما يحمل قول من رخّص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا . ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما ، فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاعُ الفرقة بقذفه إيّاها لاعترافه بما يوجب الفرقة ، ألا ترى أنه لو أقرّ أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول .
فإن قيل:لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللّعان دلَّ ذلك على أن الزنا يوجب التحريم ، لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان . قيل له:لو كان كما ذكرتَ لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان ، فلما لم تقع بالقذف دلّ على فساد ما ذكرت .
فإن قيل:إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا ، فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل الزنا . قيل له:وهذا غلط أيضاً ؛ لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها ، إذ ليست إحدى الشهادتين بأوْلى من الأخرى ؛ ولو كان الزوج محكوماً له بقبول شهادته علهيا بالزنا لوجب أن تحُدَّ حَدَّ الزنا ، فلما لم تحدَّ بذلك دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج ؛ والله أعلم بالصواب .