وَهِيَ قَوْله تَعَالَى:{ إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}:
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:قَوْلُهُ{ إيلَافِ} وَهُوَ مَصْدَرُ أَلِفَ يَأْلَفُ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ ، وَقِيلَ:آلَفَ يُؤَالِفُ ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ ، وَإِيلَافِهِمْ هَذَا يَدُلُّ منالْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ .
وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّورَةِ الْأُخْرَى ، وَقَدْ قُطِعَ عَنْهُ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ وَاسْتِئْنَافِ بَيَانٍ ، وَسَطْرٍ:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ فَقَدْ تَبَيَّنَ] وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:جَوَازُ الْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ ، وَلَيْسَت الْمَوَاقِفُ الَّتِي تَنْزِعُ بِهَا الْقُرَّاءُ شَرْعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْوِيًّا ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ الْمَعَانِيَ ، فَإِذَا عَلِمُوهَا وَقَفُوا حَيْثُ شَاءُوا ؛ فَأَمَّا الْوَقْفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّفَسِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَلَا تُعِدْ مَا قَبْلَهُ إذَا اعْتَرَاك ذَلِكَ ، وَلَكِنْ ابْدَأْ منحَيْثُ وَقَفَ بِك نَفَسُك ، [ هَذَا رَأْيِي فِيهِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ بِحَالٍ ، وَلَكِنِّي أَعْتَمِدُ الْوَقْفَ عَلَى] التَّمَامِ ، كَرَاهِيَةَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ ، وَأَطْرُقُ الْقَوْلَ منعِيٍّ .
المسألة الثَّالِثَةُ:قَالَ مَالِكٌ:الشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ ، وَالصَّيْفُ نِصْفُهَا . وَلَمْ أَزَلْ أَرَى رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَخْلَعُونَ عَمَائِمَهُمْ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا ، وَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ منبَشَنْسَ ، وَهُوَ يَوْمُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ منعَدَدِ الرُّومِ أَوْ الْفُرْسِ ، وَأَرَادَ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا أَنْ يَخْرُجَ السُّعَاةُ وَتَسِيرَ النَّاسُ بِمَوَاشِيهِمْ إلَى مِيَاهِهِمْ . وَأَنَّ طُلُوعَ الثُّرَيَّا قُبُلُ الصَّيْفِ وَدُبُرُ الشِّتَاءِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ وَحْدَهُ:إذَا سَقَطَتْ الْهَقْعَةُ نَقَصَ اللَّيْلُ ، فَلَمَّا جَعَلَ طُلُوعَ الثُّرَيَّا أَوَّلَ الصَّيْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَطْرُ السَّنَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الشِّتَاءَ منبَعْدِ ذَهَابِ الصَّيْفِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَمَّنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً حَتَّى يَدْخُلَ الشِّتَاءُ . فَقَالَ:لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ منهَاتُورَ . وَلَوْ قَالَ:حَتَّى يَدْخُلَ الصَّيْفُ لَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ منبَشَنْسَ ؛ فَهُوَ سَهْوٌ ؛ إنَّمَا هُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ منبَشَنْسَ ؛ لِأَنَّك إذَا حَسَبْت الْمَنَازِلَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ منثَلَاثَ عَشْرَ لَيْلَةً كُلَّ مَنْزِلَةٍ ، عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ منهَاتُورَ لَا تَنْقَضِي مَنَازِلُهُ إلَّا بِتِسْعَ عَشْرَةَ منبَشَنْسَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الرَّابِعَةُ:قَالَ قَوْمٌ:الزَّمَانُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:شِتَاءٌ [ وَرَبِيعٌ ، وَصَيْفٌ ، وَخَرِيفٌ . وَقَالَ قَوْمٌ:هُوَ شِتَاءٌ] وَصَيْفٌ ، وَقَيْظٌ ، وَخَرِيفٌ .
وَاَلَّذِي قَالَ مَالِكٌ أَصَحُّ ؛ لِأَجْلِ قِسْمَةِ اللَّهِ الزَّمَانَ قِسْمَيْنِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا ثَالِثًا . وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
المسألة الْخَامِسَةُ:لَمَّا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِرِحْلَتَيْنِ:[ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ؛ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ] إلَى الْيَمَنِ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَامِيَةٌ ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ ، وَقِيلَ بِتَنَقُّلِهَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الرَّجُلِ فِي الزَّمَانَيْنِ بَيْنَ مَحَلَّيْنِ يَكُونُ حَالُهُمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنْعَمَ منالْآخَرِ ، كَالْجُلُوسِ فِي الْمَجْلِسِ الْبَحْرِيِّ فِي الصَّيْفِ ، وَفِي الْقِبْلِيِّ فِي الشِّتَاءِ ، وَفِي اتِّخَاذِ البادهنجات وَالْخَيْشِ لِلتَّبْرِيدِ ، وَاللِّبَدِ وَالْيَانُوسَةِ لِلدِّفْءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .