الْآيَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . فِيهَا عِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَىقَالَ عُلَمَاؤُنَا:قَالَ عَلْقَمَةُ:إذَا سَمِعْت:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ، وَإِذَا سَمِعْت:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فَهِيَ مَكِّيَّةٌ؛ وَهَذَا رُبَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُرَوَى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – [ كَانَ] لَمَّا رَجَعَ من الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيٍّ:يَا عَلِيُّ ، أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ .
قَالَ [ الْإِمَامُ] الْقَاضِي:هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ ، أَمَّا أَنَّا نَقُولُ:سُورَةُ الْمَائِدَةِ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ فَلَا نُؤْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ:فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ فَرِيضَةً . وَقَالَ غَيْرُهُ:فِيهَا{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فِي سِتَّةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ:إنَّ فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً فَرُبَّمَا كَانَ أَلْفُ فَرِيضَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِلْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُشَاهَدْت الْمَائِدَةَ بِطُورِ زَيْتَا مِرَارًا ، وَأَكَلْت عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَذَكَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيهَا سِرًّا وَجِهَارًا ، وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا أَسْفَلَ من الْقَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ ، وَكَانَ لَهَا دَرَجَتَانِ قَلْبِيًّا وَجَوْفِيًّا ، وَكَانَتْ صَخْرَةً صَلْدَاءَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ:مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أَرْبَابُهَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ صَخْرَةٌ قُطِعَتْ من الْأَرْضِ مَحَلًّا لِلْمَائِدَةِ النَّازِلَةِ من السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَا حَوْلَهَا حِجَارَةٌ مِثْلُهَا ، وَكَانَ مَا حَوْلَهَا مَحْفُوفًا بِقُصُورٍ ، وَقَدْ نُحِتَ فِي ذَلِكَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ بُيُوتٌ ، أَبْوَابُهَا مِنْهَا ، وَمَجَالِسُهَا مِنْهَا مَقْطُوعَةٌ فِيهَا ، وَحَنَايَاهَا فِي جَوَانِبِهَا ، وَبُيُوتُ خِدْمَتِهَا قَدْ صُوِّرَتْ من الْحَجَرِ ، كَمَا تُصَوَّرُ من الطِّينِ وَالْخَشَبِ ، فَإِذَا دَخَلْت فِي قَصْرٍ من قُصُورِهَا وَرَدَدْت الْبَابَ وَجَعَلْت من وَرَائِهِ صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ لَمْ يَفْتَحْهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالْأَرْضِ؛ فَإِذَا هَبَّتْ الرِّيحُ وَحَثَتْ تَحْتَهُ التُّرَابَ لَمْ يُفْتَحْ [ إلَّا] بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ تَحْتَهُ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ ، حَتَّى يَسِيلَ بِالتُّرَابِ وَيَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ الْبَابِ ، وَقَدْ مَاتَ بِهَا قَوْمٌ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ كُنْت أَخْلُو فِيهَا كَثِيرًا لِلدَّرْسِ ، وَلَكِنِّي كُنْت فِي كُلِّ حِينٍ أَكْنُسُ حَوْلَ الْبَابِ مَخَافَةً مِمَّا جَرَى لِغَيْرِي فِيهَا ، وَقَدْ شَرَحْت أَمْرَهَا فِي كِتَابِ"تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ "بِأَكْثَرَ من هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُقَوْله تَعَالَى:{ أَوْفُوا}:
يُقَالُ:وَفَى وَأَوْفَى . قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ:وَاللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ من اللَّهِ} . وَقَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ *** كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:{ مَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُالْعُقُودُ:وَاحِدُهَا عَقْدٌ ، وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:الْعُقُودُ:الْعُهُودُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي:حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالثَّوْرِيِّ .
الثَّالِثُ:الَّذِي عَقَدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَعَقَدْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الرَّابِعُ:عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّرِكَةِ وَالْيَمِينِ وَالْعَهْدِ وَالْحِلْفِ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
الْخَامِسُ:الْفَرَائِضُ؛ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيحٍوَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُقَالَ:وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ ( ع ه د ) فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ ، وَأَصْلَ الْعَقْدِ الرَّبْطُ وَالْوَثِيقَةُ ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ من قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: "الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ ".
وَتَقُولُ الْعَرَبُ:عَهِدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ:عَرَفْنَاهُ ، وَعَقَدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ:رَبَطْنَاهُ بِالْقَوْلِ كَرَبْطِ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ *** شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَعَهْدُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ إعْلَامُهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ وَتَعَاهَدَ الْقَوْمُ:أَيْ أَعْلَنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا الْتَزَمَهُ لَهُ وَارْتَبَطَ مَعَهُ إلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ ؛ فَبِهَذَا دَخَلَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْآخَرِ ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الَّذِي قَرْطَسَ عَلَى الصَّوَابِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ؛ فَكُلُّ عَهْدٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَنَا بِهِ ابْتِدَاءً ، وَالْتَزَمْنَاهُ نَحْنُ لَهُ ، وَتَعَاقَدْنَا فِيهِ بَيْنَنَا ، فَالْوَفَاءُ بِهِ لَازِمٌ بِعُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ الْوَارِدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِهِ .
وَأَمَّا مَنْ خَصَّ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا قُوَّةَ لَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَهُوَ من عَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَالْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:يَعْنِي من النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ ، وَسَقَطَ الْمِيرَاثُ خَاصَّةً بِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَآيَةِ الْأَنْفَالِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –:( الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ) .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَأَسْقَطَ غَيْرَهَا وَعُقُودَ اللَّهِ وَالنُّذُورَ ؛ وَهَذَا تَقْصِيرٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْكِسَائِيّ:الْفَرَائِضُ ، فَهُوَ أَخُو قَوْلِ الزَّجَّاجِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ أَوْعَبُ ؛ إذْ دَخَلَ فِيهِ الْفَرْضُ الْمُبْتَدَأُ وَالْفَرْضُ الْمُلْتَزَمُ وَالنَّدْبُ ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ذَلِكَ كُلَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُإذَا ثَبَتَ هَذَا فَرَبْطُ الْعَقْدِ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اللَّهِ ، وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْآدَمِيِّ ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَوْلِ ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ؛ فَمَنْ قَالَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ "فَقَدْ عَقَدَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ رَبِّهِ ؛ وَمَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ بِالْفِعْلِ ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ ، وَيَلْزَمُ هَذَا تَمَامُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَقَدَهَا مَعَ رَبِّهِ ، وَالْتَزَمَ . وَالْعَقْدُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ . وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} . كَذَلِكَ قَالَ:{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . وَمَا قَالَ الْقَائِلُ:عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِيَفْعَلَ ، فَإِذَا فَعَلَ كَانَ أَقْوَى من الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ عَقْدٌ وَهَذَا نَقْدٌ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّافِعِيِّ تَمْهِيدًا بَلِيغًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
فَإِنْ قِيلَ:فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ:هَدْمِي هَدْمُك ، وَدَمِي دَمُك ، وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى النُّصْرَةِ فِي الْبَاطِلِ .
قُلْنَا:كَذَبْتُمْ؛ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَه حَقًّا ، وَفِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ حَقًّا مَا هُوَ حَقٌّ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ ، وَحَمْلِ الْكَلِّ ، وَقِرَى الضَّيْفِ ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . وَفِيهِ أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ فَرَفَعَ الْإِسْلَامُ من ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْبَيَانِ ، وَأَوْثَقَ عُرَى الْجَائِزِ ، وأَلْحَقَ مِنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِإِتْيَانِهِمْ نَصِيبَهُمْ فِيهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ من النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:{ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ} .
مَعْنَاهُ إنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةُ إيمَانِهِمْ عِنْدَ الْوَفَاءِ بِشُرُوطِهِمْ .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:{ أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ} . ثُمَّ قَالَ:{ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ [ كَانَ] اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ .
فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَيْ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى ، كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ إلَّا أَنْ يُعْقَدَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْوَفَاءَ بِعُهُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ ، فَيَسْقُطَ . وَلَا يَمْنَعُ هَذَا التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلِذَلِكَ حَثَّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ ، فَقَالَ:{ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ الشَّرِّ ، فَقَالَ:{ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ} . فَهَذَا حَثٌّ عَلَى فِعْلِ كُلِّ خَيْرٍ وَاجْتِنَابِ كُلِّ شَرٍّ . فَأَمَّا اجْتِنَابُ الشَّرِّ فَجَمِيعُهُ وَاجِبٌ . وَأَمَّا فِعْلُ الْخَيْرِ فَيَنْقَسِمُ إلَى مَا يَجِبُ وَإِلَى مَا لَا يَجِبُ ؛ وَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْوُجُوبُ ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَدْبِهِ؛ وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:لَمَّا كَانَتْ الْعُقُودُ الْبَاطِلَةُ وَالشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَالْجَائِزُ مِنْهَا مَحْصُورٌ فَصَارَ مَجْهُولًا فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَلَا بِالشُّرُوطِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:قُلْنَا:وَمَا لَا يَجُوزُ[ كَيْفَ]يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مُجْمَلًا . وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا بِالْبَاطِلِ:لَقَدْ ضَلَّتْ إمَامَتُك وَخَابَتْ أَمَانَتُك ، وَعَلَى هَذَا لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ لِأَمْرٍ يُفْعَلُ ؛ فَإِنَّ مِنْهُ كُلِّهِ مَا لَا يَجُوزُ ، وَمِنْهُ مَا يَجُوزُ ، فَيُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَأَوَامِرِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ لَمْ يَرْتَكِبُوا هَذَا الْخَطَرَ ، وَلَا سَلَكُوا هَذَا الْوَعْرَ ، فَدَعْ هَذَا وَعَدِّ الْقَوْلَ إلَى الْعِلْمِ إنْ كُنْت من أَهْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ:مَحْمُولُ قَوْلِهِ:{ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُقُلْنَا:فَقَدْ أَبْطَلْنَا مَا يُثْبِتُ مَحْمُولَ قَوْلِهِ:{ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عَلَى كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ . وَمَاذَا تُرِيدُ بِقَوْلِك مُقَيَّدًا ؟ تُرِيدُ قُيِّدَ بِالْجَوَازِ أَمْ قُيِّدَ بِقُرْبَةٍ ، أَوْ قُيِّدَ بِشَرْطٍ ؟ فَإِنْ أَرَدْت بِهِ قُيِّدَ بِشَرْطٍ لَزِمَك فِيهِ مَا لَزِمَك فِي الْمُطْلَقِ من أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ لَك ، وَإِنْ قُلْت:مُقَيَّدٌ بِقُرْبَةٍ ، فَيَبْطُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنْ قُلْت:مُقَيَّدٌ بِالدَّلِيلِ فَالدَّلِيلُ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَقَدْ قَالَ:{ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
فَإِنْ قِيلَ:هَذَا عَقْدُ الْيَمِينِ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَقُلْنَا:لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ ، وَكَيْفَ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ عَقْدٌ أُكِّدَ بِاسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؟ حَاشَا لِلَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ رَحْمَةً وَرُخْصَةً فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَدَلًا من الْبِرِّ ، وَخَلَفًا من الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي فَوَّتَهُ الْحِنْثُ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَسَتَرَاهُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ من هَذِهِ السُّورَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ:فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ:إذَا نَذَرَ قُرْبَةً لَا يَدْفَعُ بِهَا بَلِيَّةً وَلَا يَسْتَنْجِحُ بِهَا طَلَبَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا .
قُلْنَا:مَنْ قَالَ بِهَذَا فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الشَّرْعِ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لِعُمَرَ:( أَوْفِ بِنَذْرِك ) . وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ وَمَاذَا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْ مَا [ ذَا] يَقْدَحُ فِي الْأَدِلَّةِ من رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَأَمْثَالِهِ من الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا نَذْرُ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي الصَّحِيحِ ، وَهِيَ شَيْءٌ جَهِلْته يَا هَذَا الْعَالِمُ ، فَادْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ ، فَلَيْسَ بِوَكْرٍ إلَّا لِمَنْ أَمَّنَتْهُ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من الْمَكْرِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ ، وَلَا أُعْجِبَ بِطُرُقٍ من النَّظَرِ حَصَّلَهَا ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ فِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَافْهَمْ هَذَا ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُكُمْ وَإِيَّانَا بِتَوْفِيقِهِ لِتَوْفِيَةِ عُهُودِ الشَّرِيعَةِ حَقَّهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَقَوْله تَعَالَى:{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}:
اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:إنَّهُ كُلُّ الْأَنْعَامِ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَالرَّبِيعُ ، وَالضَّحَّاكُ .
الثَّانِي:إنَّهُ الْإِبِلُ ، وَالْبَقَرُ ، وَالْغَنَمُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ .
الثَّالِثُ:إنَّهُ الظِّبَاءُ ، وَالْبَقَرُ ، وَالْحُمُرُ الْوَحْشِيَّانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَفِي الْمُخْتَارِ:
أَمَّا مَنْ قَالَ:[ إنَّ النَّعَمَ] هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَقَدْ عَلِمْت صِحَّةَ ذَلِكَ دَلِيلًا ، وَهُوَ أَنَّ النَّعَمَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ خَاصٌّ لِلْإِبِلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ ؛ قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{ وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ من الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} . وَقَالَ:{ وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} .
فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ:وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ، أَيْ خَلَقَ جَنَّاتٍ وَخَلَقَ من الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ، يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا ، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ . . .} إلَى قَوْلِهِ:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا} .
وَقَالَ تَعَالَى:{ وَجَعَلَ لَكُمْ من جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} -وَهِيَ الْغَنَمُ-{ وَأَوْبَارِهَا} -وَهِيَ الْإِبِلُ-{ وَأَشْعَارِهَا} وَهِيَ الْمِعْزَى ،{ أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ} .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ النَّعَمِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ:الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ؛ لِتَأْنِيسِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَأَمَّا الْوَحْشِيَّةُ فَلَمْ أَعْلَمْهُ إلَى الْآنَ إلَّا اتِّبَاعًا لِأَهْلِ اللُّغَةِ .
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:{ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يَقْتَضِي دُخُولَ الْبَقَرِ وَالْحُمُرِ وَالظِّبَاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ:بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ:أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إنْسِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، أَيْ مَا لَمْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُتَعَلِّقًا فَقَدْ قَالَ:{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ من النَّعَمِ} .
فَجَعَلَ الصَّيْدَ وَالنَّعَمَ صِنْفَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الظِّبَاءَ وَالْبَقَرَ وَالْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ فِيهِ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْإِحْلَالِ مَاذَا يَصْنَعُ بِصِنْفِ الصَّيْدِ الطَّائِرِ كُلِّهِ ؟
فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَحَلَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحِلُّ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ .
وَقَدْ يَنْتَهِي الْعِيُّ بِبَعْضِهِمْ إلَى أَنْ يَقُولَ:إنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْإِبِلُ لِنِعْمَةِ أَخْفَافِهَا فِي الْوَطْءِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَافِرُ وَلَا الظِّلْفُ لِجَسَاوَتِهِ وَتَحَدُّدِهِ . وَيُقَالُ لَهُ:إنَّ الْأَنْعَامَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهِ لِمَا يُتَنَعَّمُ بِهِ من لُحُومِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ .
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَدْخُلُ صِنْفُ الْوَحْشِيِّ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ من جِهَةِ أَنْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ حِسًّا وَإِنْ لَمْ [ يَكُنْ] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ [ مِنْهَا] عُرْفًا .
فَإِنْ قُلْنَا:إنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظُ فِي النَّحْلِ وَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . وَإِنْ قُلْنَا:إنَّ الْأَلْفَاظَ تُحْمَلُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا ؛ إذْ لَا يُعْتَادُ ذَلِكَ من أَوْبَارِهَا .
وَهَا هُنَا انْتَهَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَقَوْله تَعَالَى:{ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}:
قَالُوا:من قَوْله تَعَالَى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَقِيلَ من قَوْلِهِ:{ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من قَوْلِهِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَإِنْ قِيلَ:فَقَدْ قَالَ:{ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} . وَاَلَّذِي يُتْلَى هُوَ الْقُرْآنُ ، لَيْسَ السُّنَّةَ . قُلْنَا:كُلُّ كِتَابٍ يُتْلَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَمَا كُنْت تَتْلُو من قَبْلِهِ من كِتَابٍ} وَكُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَهِيَ من كِتَابِ اللَّهِ .
؟ ؟ ؟ ؟وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:أَحَدُهُمَا:قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ:{ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، أَمَّا غَنَمُك وَجَارِيَتُك فَرَدٌّ عَلَيْك ، وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ} .
وَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ ، وَلَكِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إلَى رَسُولِهِ عِلْمًا من كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ .
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي:فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ:{ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، وَالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ} . فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً من بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ:إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْت كَيْتَ وَكَيْتَ . فَقَالَ:وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ أَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ فَقَالَتْ:لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ . فَقَالَ:لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ . أَوَمَا قَرَأْتِ:{ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟ قَالَتْ:بَلَى . قَالَ:فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ . قَالَتْ:فَإِنِّي أَرَى أَهْلَك يَفْعَلُونَهُ . قَالَ:فَاذْهَبِي فَانْظُرِي ، فَذَهَبَتْ [ فَنَظَرَتْ] فَلَمْ تَرَ من حَاجَتِهَا شَيْئًا . فَقَالَ:لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:يُحْتَمَلُ قَوْلُهُ:إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ ، أَوْ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِيمَا بَعْدُ من مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَحْصُولِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَنَا شَيْئًا وَحَرَّمَ عَلَيْنَا شَيْئًا اسْتِثْنَاءً مِنْهُ . فَأَمَّا الَّذِي أَبَاحَ لَنَا فَسَمَّاهُ[ وَبَيَّنَهُ] . وَأَمَّا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَوَعَدَ بِذِكْرِهِ فِي حِينِ الْإِبَاحَةِ ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِلْبَيَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى:{ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ .
الثَّانِي:أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْوَحْشِيَّةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .
الثَّالِثُ:أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ لَا يَحِلُّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:فِي تَنْقِيحِهَا:
أَمَّا قَوْلُهُ:إنَّ مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَخْفَشُ ، وَقَالَا:فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ حَالٌ ؛ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لَا مُحِلِّينَ لِلصَّيْدِ فِي إحْرَامِكُمْ ". وَنَكْثُ الْعَهْدِ وَنَقْضُ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ ، وَالْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ مُسْتَمِرٌّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ . وَلَوْ اخْتَصَّ الْوَفَاءَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَكَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافٍ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ . وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَوْ يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَقَلَّ من أَحْوَالِ الْوَفَاءِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَهَذَا تَهْجِينٌ لِلْكَلَامِ وَتَحْقِيرٌ لِلْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ:أُحِلَّتْ لَكُمْ الْوَحْشِيَّةُ ، فَهُوَ خَطَأٌ من وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي:أَنَّهُ حَمْلٌ لِلَفْظِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْوَحْشِيَّةِ دُونَ الْإِنْسِيَّةِ ، وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ بِالْمَعْنَى التَّابِعِ لِمَعَانِيهِ الْمُخْتَلَفِ مِنْهَا فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ:مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ الصَّيْدُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ . وَهَذَا أَشْبَهُهَا مَعْنًى ، إلَّا أَنَّ نِظَامَ تَقْدِيرِهِ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ[ تَقْدِيرُهُ]:أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، غَيْرَ مُحِلِّينَ صَيْدَهَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى ، وَيَقِلُّ فُضُولُ الْكَلَامِ ، وَيَجْرِي عَلَى قَانُونِ النَّحْوِ . وَفِيهَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ؛ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:وهي تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهِيَ تَرِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ:أَحَدُهُمَا:أَنْ يَتَكَرَّرَ ، وَيَكُونَ الثَّانِي من الْأَوَّلِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ} .
الثَّانِي:أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا من الْأَوَّلِ ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا:إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ ، فَقَوْلُهُ:{ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} اسْتِثْنَاءٌ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرْهُمَا ، وَقَوْلُهُ:إلَّا الصَّيْدَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مَعَهُ . وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:فِي تَمْثِيلٍ لِهَذَا التَّقْدِيرِ من حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:وَذَلِكَ مَا رُوِيَ{ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ:كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ لِي ، فَكُنْت أَرْقَى عَلَى الْجِبَالِ ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ رَأَيْت النَّاسَ مُشْرِفِينَ لِشَيْءٍ ، فَذَهَبْت لِأَنْظُرَ ، فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ ، فَقُلْت لَهُمْ:مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا:لَا نَدْرِي . فَقُلْت:هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ . قَالُوا:هُوَ مَا رَأَيْت . وَكُنْت نَسِيت سَوْطِي . فَقُلْت لَهُمْ:نَاوِلُونِي سَوْطِي . فَقَالُوا:لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ ، فَنَزَلْت وَأَخَذْته ثُمَّ صِرْت فِي أَثَرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا ذَاكَ حَتَّى عَقَرْته ؛ فَأَتَيْت إلَيْهِمْ فَقُلْت:قُومُوا فَاحْتَمِلُوا . فَقَالُوا:لَا نَمَسُّهُ ، فَحَمَلْته حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ . قُلْت:أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَأَدْرَكْته ، فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لِي:أَبَقِيَ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قُلْت:نَعَمْ . قَالَ:فَكُلُوا فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ ؛ فَأُحِلَّ لَهُمْ الْحُمُرُ مُطْلَقًا إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ، إلَّا مَا صَادُوهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ مِنْهَا؛ وَمَا صَادَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ ، فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ مَا وَقَعَ إلَيْهِمْ بِصَيْدِهِمْ ، إلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ إذَا صِيدَ لَهُمْ ، فَإِنْ حُرِّمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ:مَضَى فِي سَرْدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ من الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ نَحْوِهَا:إنَّهَا من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمُحَلَّلَةِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:أَنَّهُ حَلَالٌ بِكُلِّ حَالٍ ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي:أَنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ ، إلَّا أَنْ يُذَكَّى ؛ قَالَه أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ:الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَقَلَّ وَنَبَتَ شَعْرُهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِضْعَةً كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ ؛ قَالَه مَالِكٌ . وَتَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:{ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ} . وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِكْرِ"ذَكَاةِ "الثَّانِيَةِ ، هَلْ هِيَ بِرَفْعِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَلَا يَفْتَقِرُ الْجَنِينُ إلَى ذَكَاةٍ ، أَوْ هُوَ بِنَصْبِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي ، وَيَفْتَقِرُ إلَى الذَّكَاةِ . وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ، وَبَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ "أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَنِينِ بِجُزْءٍ من أَجْزَائِهَا ، أَمْ يُعْتَبَرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ "الْحَقَّ فِيهَا ، وَأَنَّهُ فِي مَذْهَبِنَا بِاعْتِبَارِ ذَكَاةِ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَسَنُشِيرُ إلَى شَيْءٍ من ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .