الْآيَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رَوَى النّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانُوا من أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ » .
المسألة الثَّانِيَةُ:فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ:
قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ:الْمُطَفِّفُونَ هُمْ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ . وَقِيلَ لَهُ الْمُطَفِّف ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ ، مَأْخُوذٌ من طَفِّ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:«كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ » يَعْنِي بَعْضُكُمْ قَرِيبٌ من بَعْضٍ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى .
وَفِي الْمُوَطَّأِ:قَالَ مَالِكٌ:[ يُقَالُ]:لِكُلِّ شَيْءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ ، وَالتَّطْفِيفُ ضِدُّ التَّوْفِيَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى خَيْبَرَ ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:فَوَجَدْنَاهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى"كهيعص"وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:فَأَقُولُ فِي صَلَاتِي: "وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ ، لَهُ مِكْيَالَانِ ، إذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي ، وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ ".
المسألة الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَإِذَا كَالُوهُمْ} يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ ، وَكَثِيرٌ من الْأَفْعَالِ يَأْتِي كَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:شَكَرْت فُلَانًا وَشَكَرْت لَهُ ، وَنَصَحْت فُلَانًا وَنَصَحْت لَهُ ، وَاخْتَرْت أَهْلِي فُلَانًا وَاخْتَرْت من أَهْلِي فُلَانًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ فِي التَّعَدِّي مُقْتَصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
المسألة الرَّابِعَةُ:قَوْلُهُ:{ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}؛ فَبَدَأَ بِالْكَيْلِ قَبْلَ الْوَزْنِ؛ وَالْوَزْنُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْكَيْلُ مُرَكَّبٌ عَلَيْهِ ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّقْدِيرِ ، لَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ لِمَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِمَقَادِيرِهَا؛ إذْ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا مُقَدِّرٍ . ثُمَّ قَدْ يَأْتِي الْكَيْلُ عَلَى الْمِيزَانِ بِالْعُرْفِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:«الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ » فَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْهَانُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْكَيْلُ [ دُونَ الْوَزْنِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَهِيَ تُكْتَالُ بِالْمَدِينَةِ فَجَرَى فِيهَا الْكَيْلُ] ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ بِالْكَيْلِ دُونَ الْوَزْنِ ، حَاشَا النَّقْدَيْنِ ، حَتَّى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْكَيْلُ ، وَلَيْسَ لِلْوَزْنِ فِيهِمَا طَرِيقٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا زَيْغٌ فَهُوَ كَظُهُورِهِ بَيْنَ الْبُرَّيْنِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
المسألة الْخَامِسَةُ:رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَرَأَ:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [ مَرَّتَيْنِ قَالَ:مَسَحَ الْمَدِينَةَ من التَّطْفِيفِ وَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً . وَرَوَى أَشْهَبُ قَالَ:قَرَأَ مَالِكٌ:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}] ، فَقَالَ:لَا تُطَفِّفْ وَلَا تَجْلِبْ وَلَكِنْ أَرْسِلْ وَصُبَّ عَلَيْهِ صَبًّا ، حَتَّى إذَا اسْتَوَى أَرْسِلْ يَدَك وَلَا تُمْسِكْ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّطْفِيفِ » وَقَالَ:إنَّ الْبَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ . قَالَ:بَلَغَنِي أَنَّ كَيْلَ فِرْعَوْنَ كَانَ طِفَافًا مَسْحًا بِالْحَدِيدَةِ .
المسألة السَّادِسَةُ قَالَ عُلَمَاءُ الدِّينِ:التَّطْفِيفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:كَمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ مَنْ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ ؛ فَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا .