قوله تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفَّا * فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} .
أكثر أهل العلم على أن المراد ب:{الصَّافَّاتِ} هنا ،و{الْزَّاجِرَاتِ} ،و{الْتَّالِيَاتِ}: جماعات الملائكة ،وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافّون ،وذلك في قوله تعالى عنهم:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ} [ الصافات:165-166] ومعنى كونهم صافين: أن يكونوا صفوفًا متراصّين بعضهم جنب بعض في طاعة اللَّه تعالى ،من صلاة وغيرها .وقيل: لأنهم يصفون أجنحتهم في السماء ،ينتظرون أمر اللَّه ،ويؤيّد القول الأول حديث حذيفة الذي قدّمنا في أوّل سورة «المائدة » ،في صحيح مسلم ،وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ،وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا ،وجعلت لنا تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء » ،وهو دليل صحيح على أن الملائكة يصفّون كصفوف المصلّين في صلاتهم ،وقد جاء في بعض الآيات ما يدلّ على أنهم يلقون الذكر على الأنبياء ،لأجل الإعذار والإنذار به ؛كقوله تعالى:{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} [ المرسلات: 5-6] ،فقوله:{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} ،كقوله هنا:{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} ،لأن الذكر الذي تتلوه تلقيه إلى الأنبياء ،كما كان جبريل ينزل بالوحي على نبيّنا وغيره من الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه على الجميع ،وقوله:{عُذْراً أَوْ نُذْراً} ،أي: لأجل الإعذار والإنذار ،أي: بذلك الذكر الذي نتلوه وتلقيه ،والإعذار: قطع العذر بالتبليغ .
والإنذار قد قدّمنا إيضاحه وبيّنا أنواعه في أوّل سورة «الأعراف » ،في الكلام على قوله تعالى:{المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [ الأعراف: 1-2] ،وقوله في هذه الآية:{فَالزاجِراتِ زَجْراً} ،الملائكة تزجر السحاب ،وقيل: تزجر الخلائق عن معاص اللَّه بالذكر الذي تتلوه ،وتلقيه إلى الأنبياء .
وممن قال بأن{الْصَّافَّاتِ} و{الْزّجِرَاتِ} و{الْتَّالِيَاتِ} في أول هذه السورة الكريمة هي جماعات الملائكة: ابن عباس ،وابن مسعود ،وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،ومجاهد ،وقتادة ؛كما قاله القرطبي وابن كثير وغيرهما .وزاد ابن كثير وغيره ممن قال به: مسروقًا والسدي والربيع بن أنس ،وقد قدّمنا أنه قول أكثر أهل العلم .
وقال بعض أهل العلم:{الصَّافَّاتِ} في الآية الطير تصفّ أجنحتها في الهواء ،واستأنس لذلك بقوله تعالى:{أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} [ الملك: 19] الآية ،وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [ النور: 41] الآية .
وقال بعض العلماء: المراد ب:{الْصَّافَّاتِ} جماعات المسلمين يصفون في مساجدهم للصلاة ،ويصفون في غزوهم عند لقاء العدوّ ؛كما قال تعالى:{تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [ الصف: 4] .