تفسير سورة ق وهي مكية .
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ، وقيل:من الحجرات . وأما ما يقوله العامة:إنه من ( عم ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم . والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه ، باب "تحزيب القرآن "ثم قال:
حدثنا مسدد ، حدثنا قران بن تمام ، ( ح ) وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد سليمان بن حبان - وهذا لفظه - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده - قال عبد الله بن سعيد:حدثنيه أوس بن حذيفة - ثم اتفقا . قال:قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف ، قال:فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له - قال مسدد:وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثقيف ، قال:كان رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم -] كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا - قال أبو سعيد:قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام - فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ، ثم يقول:لا سواء وكنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد:بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا . فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا:لقد أبطأت عنا الليلة ! قال:"إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أجيء حتى أتمه ". قال أوس:سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا:ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده .
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، به . ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، هو ابن يعلى الطائفي به .
إذا علم هذا ، فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة ، فالتي بعدهن سورة "ق ". بيانه:ثلاث:البقرة ، وآل عمران ، والنساء . وخمس:المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة . وسبع:يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل . وتسع:سبحان ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان . وإحدى عشرة:الشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، و "الم "السجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، و يس . وثلاث عشرة:الصافات ، و "ص "، والزمر ، وغافر ، و "حم "السجدة ، و "حم عسق "، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، والقتال ، والفتح ، والحجرات . ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم . فتعين أن أوله سورة "ق "وهو الذي قلناه ، ولله الحمد والمنة .
قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك ، عن ضمرة بن سعيد ، عن عبيد الله بن عبد الله ; أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي:ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيد ؟ قال:بقاف ، واقتربت .
ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة ، من حديث مالك ، به . وفي رواية لمسلم عن فليح عن ضمرة ، عن عبيد الله ، عن أبي واقد قال:سألني عمر ، فذكره .
حديث آخر:وقال أحمد:حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن أم هشام بنت حارثة قالت:لقد كان تنورنا وتنور النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدا سنتين ، أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت ( ق والقرآن المجيد ) إلا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .
رواه مسلم [ أيضا] من حديث ابن إسحاق ، به .
وقال أبو داود:حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب ، عن عبد الله بن محمد بن معن ، عن ابنة الحارث بن النعمان قالت:ما حفظت "ق "إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها كل جمعة . قالت:وكان تنورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدا .
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ، من حديث شعبة ، به .
والقصد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .
ق ):حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور ، كقوله:( ص ، ن ، الم ، حم ، طس ) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره . وقد أسلفنا الكلام عليها ، في أول "سورة البقرة "بما أغنى عن إعادته .
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا ) ق ):جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له جبل قاف . وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يصدق ولا يكذب . وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افتري في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته ! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله:"وحدثوا عن بني إسرائيل ، ولا حرج "فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل - والله أعلم .
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمه الله ، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس فقال:
حدثنا أبي قال:حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي:حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق "السماء الدنيا مرفوعة عليه . ثم خلق الله من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات . ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق "السماء الثانية مرفوعة عليه ، حتى عد سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سماوات . قال:وذلك قوله:( والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ) [ لقمان:27] .
فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( ق ) قال:هو اسم من أسماء الله عز وجل .
والذي ثبت عن مجاهد:أنه حرف من حروف الهجاء ، كقوله:( ص ، ن ، حم ، طس ، الم ) ونحو ذلك . فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس .
وقيل:المراد "قضي الأمر والله "، وأن قوله:( ق ) دلت على المحذوف من بقية الكلم كقول الشاعر:
قلت لها:قفي فقالت:قاف
وفي هذا التفسير نظر ; لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ .
وقوله:( والقرآن المجيد ) أي:الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله:( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ )
وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم متلقى لفظا ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله:( ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) [ ص:1 ، 2]