قوله تعالى:{ الزَّانِيَةُ والزَّاني} ، الآية:[ 2]:
إعلم أن الزنا كان معروفاً في اللغة قبل الشرع ، مثل اسم السرقة والقتل ، وكان موضوعاً للفعل الخاص القبيح ، وأطلق على فعل خاص حقيقة ، وجعل وطء رجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة ، نكاح بمطاوعتها زنا ، وذلك إنما علم بالسمع ، ولولا السمع لحسن ذلك ، لأن استمتاعه بها وهي راضية ، بمنزلة استخدامه لا فيما ينتفعان به فلا مضرة ولا ظلم .
والأصل أن النفع العاجل لا يحرم إلا بالسمع ، وقد اختلف الأمم في استقباح هذا الجنس:فقوم من العرب كانوا يسيبون الإماء ويطلبون النسل ، ومنهم من كان يرضى بأن يكون نساؤهم بغايا ، ومنهم من كان يرضى بنكاح الزانيات .
ومتى قيل إن في الزنا اختلاط الأنساب والجهل بتمييزها ، والعقل يشهد بقبح ما يرفع الأنساب ويبطله . فالجواب ، أن ثبوت النسب إنما يجب أن نعرفه ، لما يتعلق به من الأحكام الشرعية ، فأما من جهة العقل فلا يلزم ذلك ، فإن عرف المرء بالظاهر أن الابن مخلوق من مائة سُرَّ به ، وإلا لم يجب أن يعرف ذلك ، وإذا كانت الأنساب لا يجب معرفتها عقلاً ، ولا حكم يجب أن يتعلق بها من جهة العقل ، لولا العلم بها لما تم ، فمن أين أن العقل المؤدي إلى الجهل بالأنساب يقبح .
ولئن قيل:إذا لم يتخصص الولد بوالد ، فمن يربي الولد وينهض بكفايته ؟
فيقال:وحيث قيل هذا أب ، لم يجب عقلاً أن يقوم بكفايته ، وتولده من مائه من أين أوجب عليه عقلاً أن يقوم بمئونته وكفايته وتربيته ؟
نعم إن ذلك تلقى من السمع ، وحيث لا يكون كذلك ، فيجب على الناس عقلاً السعي فيما فيه صلاحهم وبقاء جنسهم ، وهذا بين .
وإذا ثبت ذلك ، فقد اختلف العلماء في مسائل ، وأن اسم الزنا هل يتناولها ؟ وليس نعني به أن يتعرف ذلك من جهة اللغة ، ولكن الزنا صار في الشرع اسما لمحظور خاص ، فهل نقول إن ذلك المحظور هل وجد ، فنرجع الخلاف إليه ؟ مثل قولنا:المجامع في الدبر هل يكون زانياً ؟ وواطئ أمه وأخته وابنته باسم النكاح ؟ هل يكون تحريم فعله كتحريم فعل من زنا بأجنبية أو زنا بها قبل النكاح حتى يسمى زنا{[1539]} ؟
واختلفوا في أحكام شرعية لاختلاف عقائدهم في أنها متعلقة باسم الوطء ، أو بمعنى يختص به الحلال ، مثل تحريم المصاهرة .
واختلفوا في تحريم المصاهرة ، واختلفوا في تحريم المخلوقة من ماء الزنا ، فإنهم اختلفوا في أن تحريم بنته إنما كان لمكان النسب ، أو لمكان أنها تولدت من مائة مطلقاً .
وإذا وطئها في دبرها أو لاط بغلام ، فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم في أن الزنا أوجب الحد ، لكونه مستنكراً في النفوس والطباع ، وهو مؤذن بالهتكة والفضيحة ، فإذا كان كذلك ، فاللواط أعظم وأشنع في هذا الباب .
ومنهم من يرى أن السبب في تعظيم تحريمه ، ما يتولد من فساد النسل واختلاط الأنساب .
وظن ظانون أن كتاب الله تعالى لا ينبىء عن دخول اللواط تحت اسم الزنا ، لأن الله سبحانه وتعالى قال:{ الزّانِيةُ والزّاني} . فقيل لهم:لم يذكر في الظاهر الزاني بها والزانية به ، بل أطلق ذلك ، فانطلق على اللواط .
فأجابوا بأن المفهوم من الظاهر ، أن الفعل منهما لا من أحدهما{[1540]} .
ومتى قيل:إذا لم يفهم ذلك من قوله والسارق والسارقة ، بل دخل فيها السارق من غيرها ، فكذلك هاهنا . فأجابوا بأن الزنا لا يكون إلا بينهما ، ومن فعلهما ، والسرقة ينفرد بها أحدهما فافترقا .
وهذا ركيك عندنا ، وأول ما فيه أن لا يدخل في عمومه الزاني بالمجنونة والصغيرة والمكرهة على الزنا والحربية ، إذا لم تعرف أحكام الإسلام ، إلى غير ذلك من المسائل التي لا خلاف في تناول عموم اسم الزنا لها .
ولأنه تعالى إذ قال:{ الزّانِيةُ والزّاني}:فليس يعني به شخصين فقط ، وإنما ذلك للجنس ، وإذ كانت الألف واللام لإبانة الجنس ، فكأنه ذكر الرجل الزاني مطلقاً ، وذكر جنس الزانيات ، فلا يجب أن يفهم منه زناه بها حتى يخرج منه اللواط ، وعلى أن الذي ذكروه لا فرج فيه ، فإنه إذا لاط بها مطاوعة ، فهي زانية وهو زاني .
نعم:نقول إنه لا يتناول لواط الرجل بالرجل ، وهو لا يقدح في المقصود ، بعد أن ثبت كون اللواط في الجملة داخلاً تحت اسم الزنا ، فبطل ما توهموه .
نعم الوطء دون الفرج لا يعد زنا ، لا حقيقة لغة ولا شرعاً:أما اللغة ، فاسم الزنا أطلق حقيقة على الكامل في جنسه ، وله مقدمات ووسائل لا يعد زنا حقيقة ، وإنما هو مجاورة للزنا أو موصلة إليه .
فإذا ثبت الكلام في الاسم ، فقد اختلف الناس في الداخلين تحت هذا الاسم ، فقالت الخوارج:الكل داخلون فلا رجم عندهم . وأثبت غيرهم الرجم ثم اختلفوا ، فمنهم من يعمل بالآية عموماً ويضم الرجم إلى المحصن بعد الجلد ، أكثر الفقهاء لا يرون ذلك .
فإذاً المراد بالآية البكران ، فأما الثيبان المحصنان فحدهما الرجم ، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عزا ولم يجلده ، ولذلك تخصصت الآية بخبر عبادة حيث روى: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ".
ويجوز به استخراج جنس المحصنين من عموم اللفظ ، مع أنهم شطر الزناة وأكبر ، ومع أن المبالغة في الزجر في اقتضاء ذكر الرجم أولى منها باقتضاء ذكر الجلد ، الذي لا يظهر له وقع ، بالإضافة إلى الرجم{[1541]} .
قوله تعالى:{ فاجلِدُوا}:قصد به بيان المبالغة في الزجر ، وعقبه بقوله:{ ولاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ إنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ} ، الآية:[ 2] ، فكيف ينتظم مع هذا أن يكون الرجم مشروعاً في ذلك الوقت في حق الثيب ، وهم كثر الناس أو شطرهم ، ولا يتعرض له أصلاً ولا يذكره ؟
فلا بد أن يقال:إن في ذلك الوقت ما كان الرجم مشروعاً ، ثم شرع الله تعالى الرجم بعده ، فصار ناسخاً للجلد في حق الثيب ، وليس يجوز إطلاق لفظ التخصيص في كل موضع ، بل للكلام قرائن أحوال ، يعلم بها مقصود المتكلم ضرورة ، وهذا مما لا يمكن فيه إغفال الرجم وإرادة الجلد في حق الأبكار ، فإنه يتضمن ما ذكرناه ، فلا يجوز أن يقال:إن الرجم قد كان في حق المحصن ، لكنه لم يذكر في هذه الآية .
واختلف الناس في العبد ، هل يدخل فيه ، وكذلك الأمة ؟ والصحيح أنهم دخلوا فيه ، ولكن خصصوا بقوله تعالى:{ فَعَليْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ{[1542]}} .
ويجوز أن يطلق قوله تعالى:{ فاجْلِدُوُا كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، الآية:[ 2] ولا يراد به العبيد والإماء ، لأن المقصود به المبالغة في الزجر ، وذلك يقتضي بيان الأكثر الأعظم من الزاجر .
واختلفوا في الذمي هل يدخل فيه ؟ ومذهب مالك ، أن الذميين لا يحدان إذا زنيا ، والظاهر ينفي الفرق بين المسلم والكافر .
إذا ثبت هذا ، فقد قال الله تعالى:{ فاجْلِدُوا} ، وهذا عام ، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام هو الذي يتولى ذلك في حق الرعايا ، والسيد في حق مملوكه عند الشافعي ، وإذا لم يكن إمام ، فإن أفضى استيفاء الحدود من جهة صلحاء الناس إلى هرج وفتنة لم يجز ، وإن لم يفضِ إليه جاز .
ثم لم يختلف السلف في أنه كان جلد الزانيين في ابتداء الإسلام ما قاله الله تعالى:{ فأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ{[1543]}} ،{ فآذُوهُمَا} فكان حد المرأة بالحبس ، والأذى بالتعيير ، وكان حد الرجل ، بالتعيير ، ثم نسخ في غير المحصن بقوله:{ الزَّانِيَةُ والزَّاني فاجْلِدُوا} ، مع ما بينا فيه من الكلام ، وفي المحصن الرجم ، وكأن حديث عبادة بعد قوله تعالى:{ واللاَتي يأتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُم}{[1544]} وقد قال عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ". وبين النبي عليه الصلاة والسلام بحديث عبادة المراد بالسبيل .
إذا ثبت هذا ، فقد اختلف العلماء في المحصن وغير المحصن كما قدمناه من قبل ، والشافعي يضم النفي إلى الجلد في حق البكر ، وليس في الآية ما ينفيه ، فإن النفي يجوز أن لا يذكر عند ذكر مائة جلدة وإشهار المجلود به ، وهذا مما شرحناه في مسائل الفقه ، وليس في الظاهر ما ينفي الحد ولا ما يثبته ، فهو مأخوذ من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأوجب الشافعي الرجم على الذميين ، كما أوجب على المسلمين ، تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم{[1545]} ".
ومالك يقول:إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لم يكن لليهود من ذمة ، وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة ، فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم ، وهذا بعيد ، فإن قتل الكافر إن جاز ، فإنما يجوز بغير وجه الرجم ، والرجم لم يكن مشروعاً ، فيحرم بحكم شرعنا ، فكيف يجوز إجراؤه عليهم على موجب دينهم ؟
وإذا ثبت ذلك ، فقد قال تعالى:{ فاجْلِدُوا} ، فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلداً ، فإذا فعله واستوفى العدد ، فقد وفى الظاهر حقه ، وما زاد على ذلك على أصل التحريم .
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد ، فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها .
والمفسرون والفقهاء ، حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب{[1546]} .
وروى علي بن موسى القمي أنه صلى الله عليه وسلم أوتي برجل قد أصاب حداً ، وأوتي بسوط شديد ، فقال:دون هذا ، وأوتي بسوط دونه فقال:هذا{[1547]} . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال:لا ترفع إبطك ، وعنه أنه اختار سوطاً بين السوطين .
فيجب إتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب ، ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه ، لأنه المتعارف المتعالم ، فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل ، وخرج عن طريقه الضرب .
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل ، والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر . . وكل ذلك ليس مأخوذاً من اسم الجلد ، وإنما هو مأخوذ من معنى الحد ، والمقصود به .
وظن ظانون أن معنى قوله:{ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ في دينِ اللهِ} ، تشديد الضرب ، وروي ذلك عن قتادة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه:التعزير أشد الضرب ، وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب ، وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف . . وقال الثوري:ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الشرب . والظاهر يقتضي التسوية ، وهو مذهب مالك والشافعي .
وقوله تعالى:{ ولا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رأْفَةٌ}:يحتمل أن يكون في ترك الحد وتضييعه ، وقد يكون في نقصانه ، فلا معنى لتخصيصه ببعض هذه المحامل .
قوله تعالى:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} ، الآية:[ 2]:اختلف في المراد بالطائفة ، فحملها بعضهم على العشرة ، وقالوا أقلها عشرة ولا نهاية للأكثر ، وقال آخرون:أقله رجل إلى ألف ، والأظهر أنه ثلاثة . . ومما احتجوا به من أن حد الزنا ينبغي أن يكون أشد من حد القذف والشرب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بضرب الشارب بالجريد والنعال ، وضرب الزاني إنما يكون بالسوط ، وهذا فيه نظر ، فإن ضرب الشارب ما كان مقدراً ، والكلام فيما تقدر منه بمبلغ معلوم ، وحين أمر بضرب الشارب بالنعال ، كان حد الشرب كالتعزير .
ومما قالوه أن القاذف يجوز أن يكون صادقاً ، فلم يقطع بجريمته ، والزنا بخلافه ، فكيف يسوي بين الضربين ، وهذا هوس ، فإن الشرع ما أوجب الحد إلا عند القطع بكذبه وبقوله شرعاً ، فلا حاصل لما قالوه ، ولذلك ردت شهادته ، وقال تعالى:{ فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُون} ، الآية:[ 13] . وعلى أنا أظهرنا مزية الزنا بزيادة الجلدات ، فمن أين يجب ظهور المزية ووصف الضرب من جهة الشدة{[1548]} .