الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ} .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:قَوْلُهُ:{ الزَّانِيَةُ}
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَدِّ الزِّنَا ، وَحَقِيقَتُهُ ، وَأَنَّهُ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ شَرْعًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، كَانَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ، فِي ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاسْمِ اللُّغَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ كَانَ بِأَنَّ اللِّوَاطَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَحَسَنٌ أَيْضًا ، وَلَا مُبَالَاةَ كَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْكُمْ ، فَقَدْ أَحْكَمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَحَقَقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِأَدِلَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ إعْرَابًا وَقِرَاءَةً وَمَعْنًى ، كِفَّةً كِفَّةً ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فَذَكَرَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِيهِ ، وَالزَّانِي كَانَ يَكْفِي عَنْهُ .
قُلْنَا:هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ ، كَمَا قَالَ:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فِي الزِّنَا لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْوَاطِئُ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ ذِكْرِهِمَا دَفْعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْقَع جَمَاعَةً من الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى قَالُوا:لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:جَامَعْت أَهْلِي فِي رَمَضَانَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( كَفِّرْ ) . وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِمُجَامِعَةٍ وَلَا وَاطِئَةٍ ، وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ من الشَّافِعِيِّ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَنَّهَا تَتَّصِفُ بِالْوَطْءِ ، فَكَيْفَ بِالْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ مُفَاعَلَةٌ ، هَذَا مَا لَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:قَوْلُهُ:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّجُلِ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا:ذَلِكَ لِفَائِدَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا:أَنَّ الزِّنَا فِي الْمَرْأَةِ أَعَرُّ لِأَجْلِ الْحَمْلِ ، فَصَدَّرَ بِهَا لِعِظَمِ حَالِهَا فِي الْفَاحِشَةِ . الثَّانِيَةُ:أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ ، فَصَدَّرَ بِهَا تَغْلِيظًا لِرَدْعِ شَهْوَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكَّبَ فِيهَا حَيَاءً ، وَلَكِنَّهَا إذَا زَنَتْ ذَهَبَ الْحَيَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} جَعَلَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَدَّ الزِّنَا قِسْمَيْنِ:رَجْمًا عَلَى الثَّيِّبِ ، وَجَلْدًا عَلَى الْبِكْرِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} عَامٌّ فِي كُلِّ زَانٍ ، ثُمَّ شَرَحَتْ السُّنَّةُ حَالَ الثَّيِّبِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ) . فَقَالَ سُنَّةً ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ قُرْآنًا ، وَبَقِيَ الرَّجْمُ عَلَى حَالِهِ فِي الثَّيِّبِ ، وَالتَّغْرِيبُ فِي الْبِكْرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِالْجَلْدِ الْإِمَامُ ، وَمَنْ نَابَ عَنْهُ ، وَزَادَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ:السَّادَةُ فِي الْعَبِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ:فِي كُلِّ جَلْدٍ وَقَطْعٍ . وَقَالَ مَالِكٌ:فِي الْجَلْدِ خَاصَّةً دُونَ الْقَطْعِ ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ:( إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ) . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:قَوْلُهُ:{ لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:{ لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} فَتُسْقِطُوا الْحَدَّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:{ لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} فَتُخَفِّفُوا الْحَدَّ ؛ وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْمِلَ أَحَدًا رَأْفَةٌ عَلَى زَانٍ بِأَنْ يُسْقِطَ الْحَدَّ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْهُ .
وَصِفَةُ الضَّرْبِ أَنْ يَكُونَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ ، وَضَرْبًا بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ ، وَتَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحُدُودُ كُلُّهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:لَا سَوَاءٌ بَيْنَ الْحُدُودِ ، ضَرْبُ الزَّانِي أَشَدُّ من ضَرْبِ الْقَذْفِ ، وَضَرْبُ الْقَذْفِ أَشَدُّ من ضَرْبِ الشُّرْبِ ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا صُورَةَ الذَّنْبِ ، فَرَكَّبُوا عَلَيْهِ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ، وَالشُّرْبُ أَخَفُّ من الْقَذْفِ ، وَالْقَذْفُ أَخَفُّ من الزِّنَا ؛ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ وَقَرَنُوهُ بِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ أَصَابَ حَدًّا ، وَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ ، فَقَالَ:دُونَ هَذَا . وَأُتِيَ بِسَوْطٍ دُونَهُ ، فَقَالَ:( فَوْقَ هَذَا ) .
وَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ الْحَدَّ ، فَقَالَ لَهُ: "لَا تَرْفَعْ إبِطَكَ". وَعَنْهُ:أَنَّهُ اخْتَارَ سَوْطًا بَيْنَ السَّوْطَيْنِ . وَيُفَرَّقُ عَلَيْهِ الضَّرْبُ فِي ظَهْرِهِ ، وَتُجْتَنَبُ مَقَاتِلُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَهَذَا مَا لَمْ يَتَتَابَعْ النَّاسُ فِي الشَّرِّ ، وَلَا احْلَوْلَتْ لَهُمْ الْمَعَاصِي ، حَتَّى يَتَّخِذُوهَا ضَرَاوَةً ، وَيَعْطِفُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَادَةِ ، فَلَا يَتَنَاهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ؛ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الشِّدَّةُ ، وَيَزِيدُ الْحَدُّ ، لِأَجْلِ زِيَادَةِ الذَّنْبِ .
وَقَدْ أُتِيَ عُمَرُ بِسَكْرَانٍ فِي رَمَضَانَ ، فَضَرَبَهُ مِائَةً:ثَمَانِينَ حَدُّ الْخَمْرِ ، وَعِشْرِينَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ ؛ فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَتَرَكَّبَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى تَغْلِيظِ الْجِنَايَاتِ ، وَهَتْكِ الْحُرُمَاتِ .
وَقَدْ لَعِبَ رَجُلٌ بِصَبِيٍّ ، فَضَرَبَهُ الْوَالِي ثَلَاثَمِائَةِ سَوْطٍ ، فَلَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مَالِكًا حِينَ بَلَغَهُ ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ وَالِاسْتِهْتَارِ بِالْمَعَاصِي ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْمَنَاكِرِ ، وَبَيْعِ الْحُدُودِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْعَبِيدِ لَهَا فِي مَنْصِبِ الْقُضَاةِ؛ لَمَاتَ كَمَدًا ، وَلَمْ يُجَالِسْ أَحَدًا ؛ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ} .
وَفِقْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ الْمَحْدُودَ ، وَمَنْ شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَزْدَجِرُ لِأَجْلِهِ ، وَيَشِيعُ حَدِيثُهُ ؛ فَيَعْتَبِرُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ الطَّائِفَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:وَاحِدٌ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ .
الثَّانِي:رَجُلَانِ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ .
الثَّالِثُ:ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَهُ قَوْمٌ .
الرَّابِعُ:أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
الْخَامِسُ:أَنَّهُ عَشْرَةٌ .
وَحَقِيقَةُ الطَّائِفَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ فَاعِلَةٌ من طَافَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ فَلَوْلَا نَفَرَ من كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . وَذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْوَاحِدِ . وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، إلَّا أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ هَاهُنَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ من التَّشْدِيدِ وَالْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ .
وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَى أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةً نَزَعَ بِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ شُهُودِهِ .
وَالصَّحِيحُ سُقُوطُ الْعَدَدِ ، وَاعْتِبَارُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بِهِمْ التَّشْدِيدُ من غَيْرِ حَدٍّ .