الْآيَةُ الثَّامِنَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:في سبب نزولها:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:( أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ . . .} إلَى قَوْلِهِ:{ لَمُشْرِكُونَ} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَقْضِي بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا يُؤْكَلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، بَيْدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُكْمَيْنِ بِنَصَّيْنِ ، وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا بِكَلَامَيْنِ صَرِيحَيْنِ ، فَقَالَ فِي الْمُقَابِلِ الثَّانِي:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ . . .} .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} .
الْمَعْنَى:مَا الْمَانِعُ لَكُمْ من أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ ، وَأَوْضَحَ لَكُمْ الْمُحَلَّلَ ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْك مَعْنًى خَاصِّيًّا أَبَاحَ مَا سِوَاهُ ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ ، فَكَيْفَ يُقَابَلُ ذَلِكَ من تَفْصِيلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَإِيضَاحِهِ وَشَرْحِهِ بِهَوًى بَاطِلٍ وَرَأْيٍ فَاسِدٍ ، صَدَرَا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَا بِاعْتِدَاءٍ وَإِثْمٍ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} .
الْمَعْنَى:قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ فَذَرُوهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ظَاهِرًا ، وَبَاطِنًا ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ:سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي:قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:ظَاهِرُ الْإِثْمِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا .
الثَّالِثُ:ظَاهِرُ الْإِثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ من الزَّوَانِي ، وَبَاطِنُهُ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ .
الرَّابِعُ:ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الْعُرْبَانِ ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ:إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ من أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ ظَاهِرُ الْإِثْمِ الْخَمْرُ ، وَبَاطِنُهُ الْمُثَلَّثُ وَالْمُنَصَّفُ ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا سَادِسًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ وَاضِحَ الْمُحَرَّمَاتِ . وَبَاطِنُهُ الشُّبُهَاتِ وَ منهَا الذَّرَائِعُ ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}:
يَعْنِي:فَمُطْلَقُ سَبَبِ الْآيَةِ الْمَيْتَةُ ، وَهِيَ الَّتِي قَالُوا هُمْ فِيهَا:وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ . فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ:لَا تَأْكُلُوامن هَا ؛ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا . فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ، وَقَصْرُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى السَّبَبِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَقِلًّا دُونَ عَطْفِهِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لُغَةً وَلَا حُكْمًا .
قُلْنَا:قَدْ آنَ أَنْ نَكْشِفَ لَكُمْ نُكْتَةً أُصُولِيَّةً وَقَعَتْ تَفَارِيقَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّفْتهَا جُمْلَةً من فَكٍّ شَدِيدٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ:مَهْمَا قُلْنَا:إنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ ، هَلْ يَقْصُرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّا لَا نُخْرِجُ السَّبَبَ عَنْهُ ، بَلْ نُقِرُّهُ فِيهِ ، وَنَعْطِفُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا نَمْتَنِعُ أَنْ يُضَافَ غَيْرُهُ إلَيْهِ إذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ ؛ فَقَوْلُهُ:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بِعُمُومِ لَفْظِهِ ، وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِوُرُودِهِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ من الْآلِهَةِ الْمُبْطَلَةِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَبِزِيَادَةِ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ هَذَا اللَّفْظَ عُمُومًا وَمَعْنَاهُ تَنْبِيهًا من طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ نَصًّا قَوْلُهُ:{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ، فَقَدْ تَوَارَدَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالتَّنْبِيهُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ أَوَّلًا .
وَهَذَا من بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا من الذَّبَائِحِ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا قَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ ، وَلَكِنَّنَا نُشِيرُ فِيهَا هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ ؛ فَنَقُولُ:اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:إنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُكِلَتْ . وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ ؛ قَالَهُ فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَعِيسَى ، وَأَصْبَغُ .
الثَّانِي:إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا تُؤْكَلُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ:أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ أَكْلُهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ ، وَأَحْمَدُ . الرَّابِعُ:إنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كُرِهَ أَكْلُهَا وَلَمْ تُحَرَّمْ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ، وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ من أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
الْخَامِسُ:قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
السَّادِسُ:قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:يَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَتْهَا الشَّرِيعَةُ .
فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؛ فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ .
وَقَوْلُهُ:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نَهْيٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؛ لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ الْحَرَامَ الْمَحْضَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ . وَهَذَا من نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصِّحَاحِ:( مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ) . وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ [ عَلَيْهِ] فَكُلْ ) . وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:{ وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ ) .
وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَالِبَةٌ عَالِيَةٌ ، وَذَلِكَ من أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ . وَأَعْجَبُ لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا:[ وَذِكْرُ اللَّهِ] إنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ ، وَالذَّبْحُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ .
قُلْنَا:هَذَا فَاسِدٌ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ، كَمَا قُلْنَا .
الثَّانِي:أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكْنَةٍ ، حَتَّى فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُ:بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ .
الثَّالِثُ:أَنَّ الذَّبِيحَةَ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَك ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىمن كُمْ} .
فَإِنْ قِيلَ:الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُضَادُّ النِّسْيَانَ ، وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ ، فَمَحَلُّ الذِّكْرِ الْقَلْبُ .
وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:( اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ ) ، وَلِهَذَا تُجْزِئُهُ الذَّبِيحَةُ إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ تَعْوِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ من اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
قُلْنَا:الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ ، وَاَلَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ تَسْمِيَةَ الْأَصْنَامِ وَالنُّصُبِ بِاللِّسَانِ ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْأَلْسِنَةِ ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ ، حَتَّى قِيلَ لِمَالِكٍ:هَلْ يُسَمِّي اللَّهَ إذَا تَوَضَّأَ ؟ فَقَالَ:أَيُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ ؟ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ وَمَوْضُوعَهَا إنَّمَا هُوَ فِي الذَّبَائِحِ لَا فِي الطَّهَارَةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ:( اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ ) فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ .
وَأَمَّا النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَلَيْسَ النَّاسِي فَاسِقًا بِإِجْمَاعٍ ، فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ:وَكَذَلِكَ الْمُتَعَمِّدُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ إنْ أَكَلَهَا إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا .
قُلْنَا:قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَصَرَّحْنَا فِيهِ بِالْحَقِّ من وُجُوهٍ ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا:أَنْ يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ إذَا أَضْجَعَ الذَّبِيحَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ:قَلْبِي مَمْلُوءٌ من أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ، فَلَا أَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ بِلِسَانِي ؛ فَذَلِكَ يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ . وَإِنْ قَالَ:لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ صَرِيحَةً ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ ، فَهَذَا يُجْزِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبٍ يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ اجْتِهَادًا لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ وَتَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَهُ . وَإِنْ قَالَ:لَا أُسَمِّي ، وَأَيُّ قَدْرٍ لِلتَّسْمِيَةِ ؟ فَهَذَا مُتَهَاوِنٌ كَافِرٌ فَاسِقٌ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ، فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، فَأَمَّا عَلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا تَشْخِيصَ لَهَا .
وَاَلَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّاسِي أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ ، لِاسْتِحَالَةِ خِطَابِ النَّاسِي ؛ فَالشَّرْطُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ}:
سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ من إلْهَامٍ وَحْيًا ، وَهَذَا مِمَّا يُطْلِقُهُ شُيُوخُ التَّصَوُّفِ ، وَيُنْكِرُهُ جُهَّالُ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوَحْيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ، وَأَنَّ إطْلَاقَهُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، أَوْ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمَّى إلْهَامَ الشَّيَاطِينِ وَحْيًا ؛ وَكُلُّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ من الْخَوَاطِرِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ ؛ فَكُلُّ مَا كَانَ من الشَّرِّ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الشَّيْطَانِ ، وَمَا كَانَ من الْخَيْرِ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الْمَلَكِ . وَفِي الْحَدِيثِ:( إنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ:لَمَّةٌ من الْمَلَكِ وَلَمَّةٌ من الشَّيْطَانِ ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ) .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ لِيُجَادِلُوكُمْ}:
الْمُجَادَلَةُ دَفْعُ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ بِالْقُوَّةِ مَأْخُوذٌ من"الْأَجْدَلِ ":طَائِرٌ قَوِيٌّ ، أَوْ لِقَصْدِ الْمُغَالَبَةِ ؛ كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ ، وَيَكُونُ حَقًّا فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَبَاطِلًا فِي نُصْرَةِ الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى:{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}:
إنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِطَاعَةِ الْمُشْرِكِ مُشْرِكًا إذَا أَطَاعَهُ فِي اعْتِقَادِهِ:الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَعَقْدُهُ سَلِيمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ عَاصٍ . فَافْهَمُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .