المسألة الثَّانِيَةُ:فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُهُ:{ قُمْ} هُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى وَلَكِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْأَفْعَالِ الْقَاصِرَةِ فِي تَعَدِّيهِ إلَى الظُّرُوفِ ، فَأَمَّا ظَرْفُ الزَّمَانِ فَسَائِغٌ فِيهِ ، وَارِدٌ كَثِيرًا بِهِ يُقَالُ:قَامَ اللَّيْلَ ، وَصَامَ النَّهَارَ ، فَيَصِحُّ وَيُفِيدُ . وَأَمَّا ظَرْفُ الْمَكَانِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ، لَا تَقُولُ:قُمْت الدَّارَ حَتَّى تَقُولَ وَسَطَ الدَّارِ وَخَارِجَ الدَّارِ . وَقَدْ قِيلَ قُمْ هَاهُنَا بِمَعْنَى صَلِّ ؛ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ ، وَاسْتُعِيرَ لَهُ عُرْفًا فِيهِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ .
المسألة الثَّالِثَةُ:قَوْلُهُ{ اللَّيْلَ} فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ . وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَقُّ . وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَقِيلَ:خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ فَرْضًا .
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ:«قَالَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ:فَانْطَلَقْت إلَى عَائِشَةَ . فَقُلْت:يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قَالَتْ أَلَسْت تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْت:بَلَى . قَالَتْ:فَإِنَّ خُلُقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْقُرْآنَ . قَالَ:فَهَمَمْت أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلُ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ .
ثُمَّ قُلْت:أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . فَقَالَتْ:أَلَسْت تَقْرَأُ:{ يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ! قُلْت:بَلَى . قَالَتْ:فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَتِهِ » وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
المسألة الرَّابِعَةُ:إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ سَعَةً لِلْإِنْسَانِ وَمَجَالًا لِلْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} ، وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْآدَمِيِّ أَصْلٌ خِلْقِيٌّ ، فَكَذَلِكَ الزَّمَانُ لِلسِّيَاحَةِ وَجْهٌ خِلْقِيٌّ أَيْضًا ، لَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنْ يَقْدُمَ لِلدَّارِ الْأُخْرَى ، وَيَعْتَمِدَ فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ مَا هُوَ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَلَوْ عُمْرُهُ كُلُّهُ بِالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ وَرُزِقَ عَلَى ذَلِكَ قُدْرَةَ مَا كَانَ قَضَاءً لِحَقِّ النِّعْمَةِ ، فَوَضَعَهُ اللَّهُ أَوْقَاتًا لِلْعِبَادَةِ ، وَأَوْقَاتًا لِلْعَادَةِ . فَالنَّهَارُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:الْأَوَّلُ:مِن الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، مَحِلٌّ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَهُوَ فُسْحَةٌ لِلْفَرِيضَةِ ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كَانَتْ فِيهِ مَحِلًّا لِلذِّكْرِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ [ حِسًّا] ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ إلَى وَظِيفَتِهِ الْآدَمِيَّةِ حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ ، فَيَكُونَ هُنَالِكَ عِبَادَةً نَفْلِيَّةً يَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى أَنْ تَجِدَ الْفِصَالُ حَرَّ الشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:«صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ » .
وَهُوَ أَيْضًا خِلْفَةٌ لِمَنْ نَامَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:«مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّاهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ وَهُوَ مَغْمُورٌ بِحَالِ الْمَعَاشِ » .
[ قَالَ الْإِمَامُ]:كُنَّا بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة مُرَابِطِينَ أَيَّامًا ، وَكَانَ فِي أَصْحَابِنَا رَجُلٌ حَدَّادٌ ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَنَا الصُّبْحَ ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَحْضُرَ حَلْقَةَ الذِّكْرِ ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى حِرْفَتِهِ ، حَتَّى إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالظُّهْرِ رَمَى بِالْمِرْزَبَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَتَرَكَهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَأَقَامَ فِي صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إلَى مَنْزِلِهِ فِي مَعَاشِهِ ، حَتَّى إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ جَاءَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى فِطْرِهِ ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعُ أَوْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ مِن الْعِلْمِ ، حَتَّى إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ .
وَهُوَ مَحَلٌّ لِلْقَائِلَةِ ، وَهِيَ نَوْمُ النَّهَارِ الْمُعَيَّنِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الْعِلْمِ .
فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ حَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ حَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ زَالَ النَّهَارُ بِوَظَائِفِهِ وَنَوَافِلِهِ .
ثُمَّ يَدْخُلُ اللَّيْلُ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا وَقْتًا لِلتَّطَوُّعِ ، يُقَالُ إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجِعِ} وَإِنَّهُ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ:{ إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}
ثُمَّ يَغِيبُ الشَّفَقُ فَتَدْخُلُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثِهِ ، وَهُوَ مَحَلُّ النَّوْمِ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ [ الْآخِرَةَ] إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فَهُوَ وَقْتٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ .
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«يَنْزِلُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سمَاءِ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ .
فَيَقُولُ:مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ! مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ! حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهُوَ أَيْضًا وَقْتٌ لِلْقِيَامِ » ، لِقَوْلِهِ:«إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا . . . » الْحَدِيثَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ:مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ} ؟ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى:{ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} هُوَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ):هُوَ إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ ، وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ انْتَظَمَ الْحَدِيثُ وَالْقُرْآنُ فَإِنَّهُمَا يَنْظُرَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، حَتَّى إذَا بَقِيَ سُدُسُ اللَّيْلِ كَانَ مَحَلًّا لِلنَّوْمِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثَّ عَلَى سُنَنِ دَاوُد فِي صَوْمِهِ وَقِيَامِهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:إنَّ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، ثُمَّ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَتَعُودُ الْحَالَةُ الْأُولَى هَكَذَا أَبَدًا ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَتَدْبِيرُ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ » .
المسألة الْخَامِسَةُ:قَوْلُهُ:{ إلَّا قَلِيلًا}:
اسْتَثْنَى مِنْ اللَّيْلِ كُلِّهِ"قَلِيلًا"وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى وَجْهِ كَلَامِهِ فِيهِ ، وَهُوَ إحَالَةُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَجْهُولٍ يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ ؛ إذْ لَوْ قَالَ:إلَّا ثُلُثَهُ ، أَوْ رُبْعَهُ ، أَوْ سُدُسَهُ ، لَكَانَ بَيَانًا نَصًّا ، فَلَمَّا قَالَ:{ إلَّا قَلِيلًا} وَكَانَ مُجْمَلًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ أَدِلَّةِ التَّكْلِيفِ .