الْآيَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}:
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:فِي قِرَاءَتِهَا:قَرَأَ الْحَسَنُ ، وَالْأَعْمَشُ ، وَابْنُ كَثِيرٍ:لَأُقْسِمُ من غَيْرِ أَلِفٍ زَائِدَةٍ عَلَى اللَّامِ إثْبَاتًا . وَقَرَأَهَا النَّاسُ بِالْأَلِفِ نَفْيًا .
المسألة الثَّانِيَةُ:اخْتَلَفَ النَّاسُ إذَا كَانَ حَرْفُ"لَا"مَخْطُوطًا بِأَلِفٍ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ ، هَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيًا كَالصُّورَةِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:تَكُونُ صِلَةً فِي اللَّفْظِ ، كَمَا تَكُونُ"مَا"صِلَةً فِيهِ ؛ وَذَلِكَ فِي حَرْفِ"مَا"كَثِيرٌ ؛ فَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقَدْ جَاءَتْ [ كَذَلِكَ] فِي قَوْلِ الشَّاعِر:
تَذَكَّرْت لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ *** وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
أَيْ يَتَقَطَّعُ ، وَدَخَلَ حَرْفُ"لَا"صِلَةً .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:[ يَكُونُ] تَوْكِيدًا ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ:لَا وَاَللَّهِ ، وَكَقَوْلِ أَبِي كَبْشَةَ [ امْرِئِ الْقَيْسِ]:
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ *** لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ:وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:إنَّهَا رَدٌّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَسَمَ ؛ فَقَالَ:أُقْسِمُ ، لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُبْتَدأَةِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ الَّتِي تَكُونُ رَدًّا ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
المسألة الثَّالِثَةُ:أَمَّا كَوْنُهَا صِلَةً فَقَدْ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ:{ مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُ صِلَةٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي ص:{ مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْت} وَالنَّازِلَةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ ؛ فَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اللَّفْظِ خَاصَّةً .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ:إنَّهُ تَوْكِيدٌ فَلَا مَعْنَى لَهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا ظَهَرَ الْمُؤَكِّدُ ؛ كَقَوْلِهِ:لَا وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُؤَكِّدٌ فَلَا وَجْهَ لِلتَّأْكِيدِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ:
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِ *** يِّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ
[ كَيْفَ] أَكَّدَ النَّفْيَ وَهُوَ لَا يَدِّعِي بِمِثْلِهِ .
وَمِنْ أَغْرَبِ هَذَا أَنَّهُ قَدْ تُضْمَرُ وَيُنْفَى مَعْنَاهَا ، كَمَا قَالَ أَبُو كَبْشَةَ:
فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا *** وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي
فِي قَوْلٍ . وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْإِلْجَاءِ لِلْفُقَهَاءِ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ الْأُدَبَاء .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ:إنَّهَا رَدٌّ فَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ رَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى ، وَيَتَمَكَّنُ اللَّفْظُ وَالْمُرَادُ .
المسألة الرَّابِعَةُ:وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا:لَأُقْسِمُ فَاخْتَلَفُوا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَهَا فِي الْخَطِّ كَمَا حَذَفَهَا فِي اللَّفْظِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ أَصْلٌ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:أَكْتُبُهَا وَلَا أَلْفِظُ بِهَا ، كَمَا كَتَبُوا"لَا إلَى الْجَحِيمِ". و "لَا إلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ"بِأَلِفٍ ، وَلَمْ يَلْفِظُوا بِهَا ، وَهَذَا يَلْزَمُهُمْ فِي قَوْلِهِ:{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وَشِبْهِهِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ:إنَّمَا تَكُونُ صِلَةً فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ، كَقَوْلِهِ:{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وَقَوْلِهِ:{ أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك} وَنَحْوِهِ ؛ فَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فَلَا يُوصَلُ بِهَا إلَّا مَقْرُونَةً بِأَلِفٍ ، كَقَوْلِهِ:{ أَلَا إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
فَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا:إنَّ الْقُرْآنَ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُصِلَ بِهَا مَا قَبْلَهَا لَكَانَتْ:أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، حَتَّى إنَّ قَوْمًا كَرِهُوا فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ يَصِلُوهَا بِهَا ، وَوَقَفُوا حَتَّى يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، لِيَقْطَعُوا الْوَصْلَ الْمُتَوَهَّمَ .
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ نَقُولَ:إنَّ الصِّلَةَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَصِلَةِ آخِرِهِ بِهَا ، كَذِكْرِهَا فِي أَثْنَائِهِ ؛ بَلْ ذِكْرُهَا فِي أَثْنَائِهِ أَبْلَغُ فِي الْإِشْكَالِ ، كَقَوْلِهِ:{ مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ} وَلَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَنْ أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ ، قَادِحًا فِي زَيْنِ الْفَصَاحَةِ ، مُثَبِّجًا قَوَانِينَ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي طَالَ الْقُرْآنُ بِهَا أَنْوَاعَ الْكَلَامِ ، وَلَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِهِ الْفُصَحَاءُ الْبُلَّغُ ، وَالْعَرَبُ الْعُرْبُ ، وَالْخُصَمَاءُ اللُّدُّ ، فَلَمَّا سَلَّمُوا فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أُسْلُوبِهِمْ جَارٍ ، وَفِي رَأْسِ فَصَاحَتِهِمْ مَنْظُومٌ ، وَعَلَى قُطْبِ عَرَبِيَّتِهِمْ دَائِرٌ ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ من مُحَقِّقِي الْمُفَسِّرِينَ ، فَقَالُوا:قَوْلُهُ:{ لَا أُقْسِمُ} قَسَمٌ .
المسألة الْخَامِسَةُ:فَإِنْ قِيلَ:كَيْفَ أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِغَيْرِهِ .
قُلْنَا:هَذَا قَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْهُ عَلَى الْبَلَاغِ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، وَقُلْنَا:لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ من مَخْلُوقَاتِهِ تَعْظِيمًا لَهَا .
فَإِنْ قِيلَ:فَلِمَ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ ؟
قُلْنَا:لَا تُعَلَّلُ الْعِبَادَاتُ . وَلِلَّهِ أَنْ يُشَرِّعَ مَا شَاءَ ، وَيَمْنَعَ مَا شَاءَ [ وَيُبِيحَ مَا شَاءَ] ، وَيُنَوِّعَ الْمُبَاحَ وَالْمُبَاحَ لَهُ ، وَيُغَايِرَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِينَ ، وَيُمَاثِلَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيمَا كَلَّفَ من ذَلِكَ ، وَحَمَّلَ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
فَإِنْ قِيلَ . فَلِمَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَصَّ عَلَيْهِ دَعَائِمَ الْإِسْلَامِ وَفَرَائِضَ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ:وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ:أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ .
[ قُلْت:قَدْ رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ مَشْرِقِيَّةٍ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة:أَفْلَحَ وَاَللَّه إنْ صَدَقَ ، وَيُمْكِنُ] أَنْ يَتَصَحَّفَ قَوْلُهُ:وَاَللَّهِ بِقَوْلِهِ:وَأَبِيهِ .
جَوَابٌ آخَرُ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ:{ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ} .
جَوَابٌ آخَرُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْهُ عِبَادَةً ، فَإِذَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْأَلْسُنِ عَادَةً فَلَا يُمْنَعُ ، فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُقْسِمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْ تَكْرَهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ تُعَظِّمُ؛ قَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
أَظَنَّتْ سِفَاهًا من سَفَاهَةِ رَأْيِهَا *** لَأَهْجُوهَا لَمَا هَجَتْنِي مُحَارِبُ
فَلَا وَأَبِيهَا إنَّنِي بِعَشِيرَتِي *** وَنَفْسِي عَنْ هَذَا الْمُقَامِ لَرَاغِبُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ:
لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ أَيَّانَ نَلْتَقِي *** لَمَا لَا تُلَاقِيهَا من الدَّهْرِ أَكْثَرُ
يَعُدُّونَ يَوْمًا وَاحِدًا إنْ لَقِيتهَا *** وَيَنْسَوْنَ أَيَّامًا عَلَى النَّأْيِ تَهْجُرُ
وَقَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمْرَ غَيْرُهُمْ *** لَقَدْ كَلَّفَتْنِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
*فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَزُورُهَا*
وَإِذَا كَانَ هَذَا شَائِعًا كَانَ من هَذَا الْوَجْهِ سَائِغًا .