الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى:{ إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:فِي مَعْنَاهُ:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْقُرْآنُ .
الثَّانِي أَنَّهُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
الثَّالِثُ:أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَحْكَامَ الْقُرْآنِ .
المسألة الثَّانِيَةُ:تَحْقِيقُ قَوْله تَعَالَى:{ إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} يَعْنِي الْقُرْآنَ مُطْلَقًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ قَطْعًا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ فِيهِ أَحْكَامُهُ فَإِنْ أَرَادَ مُعْظَمَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{ شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْك} . وَأَمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهُوَ الْأَوْلَى من الْأَقْوَالِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الثَّالِثَةُ:تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْعَجَمِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . قَالُوا:فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كِتَابَهُ وَقُرْآنَهُ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ ؛ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِخْبَارِ بِهَا عَنْهُ وَبِأَمْثَالِهَا من سَائِرِ الْأَلْسُنِ الَّتِي تُخَالِفُهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ من وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ:أَنَّا نَقُولُ:إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْكُتُبَ ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ، كَمَا أَخْبَرَ ، وَمَا أَنْزَلَ من كِتَابٍ إلَّا بِلُغَتِهِمْ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}؛ كُلُّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَقْرِيبٌ لِلتَّفْهِيمِ إلَيْهِمْ ، وَكُلٌّ مُفْهِمٌ بِلُغَتِهِ ، مُتَعَبِّدٌ بِشَرِيعَتِهِ ، وَلِكُلِّ كِتَابٍ بِلُغَتِهِمْ اسْمٌ ؛ فَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُوسَى التَّوْرَاةُ ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ عِيسَى الْإِنْجِيلُ ، وَاسْمُهُ بِلُغَةِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنُ ، فَقِيلَ لَنَا:اقْرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ بِمَا يُسَمَّى قُرْآنًا .
الثَّانِي:هَبْكُمْ سَلَّمْنَا لَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي صُحُفِ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَمَا الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ؟ فَإِنْ قِيلَ:بِالْقِيَاسِ .
قُلْت:لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَكُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى التَّمَامِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .