الْآيَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى:{ بَرَاءَةٌ}:أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؛ يُقَالُ:بَرِئْت مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ:إذَا أَزَلْته عَنْ نَفْسِك ، وَقَطَعْت سَبَبَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:وَلَمْ يُعَاهِدْهُمْ إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الْآمِرَ وَالْحَاكِمَ ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَحْكَمَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ ، مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ ، مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ ، يُؤَاخَذُونَ بِهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:اخْتِلَافُ الْآرَاءِ ، وَامْتِنَاعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ .
وَالثَّانِي:كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ الْمَانِعِ من تَحْصِيلِ رِضَا جَمِيعِهِمْ ، فَوَقَعَ الِاجْتِزَاءُ بِالْمُقَدَّمِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لَزِمَ الرَّعَايَا حُكْمُهُ ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ كَانَ أَثْبَتَ لِنِسْبَتِهِ إلَيْهِمْ ، كَمَا نُسِبَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمُسْلِمِينَ ، لِكَوْنِهِمْ بِهِ رَاضِينَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قَوْله تَعَالَى:{ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُعَاهِدَ كَانَ مُشْرِكًا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ من أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا مُشْرِكِينَ ؟ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْعَرَبِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ، وَكَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ:مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَجَلُ عَهْدِهِ أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ ، فَأَمْهَلَ الْكُلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
وَقِيلَ:مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ خَمْسِينَ لَيْلَةً:عِشْرِينَ من ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ:{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} . وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:الَّذِي عِنْدِي أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ:{ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ من الْمُشْرِكِينَ} . فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَيُحِلُّ دَمَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِحْلَالِ لِدَمِهِ بِالْكُفْرِ الْمَوْجُودِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ أَيْضًا أَجَلًا لِمَنْ كَانَتْ مُدَّتُهُ أَكْثَرَ من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَيَكُونَ إسْقَاطُ الزِّيَادَةِ تَخْصِيصًا لِلْمُدَّةِ ، كَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ النِّسَاءَ من أَعْدَادِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ من الْمَصْلَحَةِ لِلْإِمَامِ ، وَالتَّمَادِي عَلَى الْعَهْدِ ، أَوْ الرُّجُوعِ عَنْهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ .