الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ:قَوْله تَعَالَى{ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ من فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ من وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:قَوْله تَعَالَى{ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}:
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا:أَنَّهُ قَوْلُ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْد:إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَلَنَحْنُ شَرٌّ من الْحُمْرِ . ثُمَّ إنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ .
الثَّانِي:أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ قَالَ:{ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ:أَنَّهُ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ . وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِعُمُومِ الْقَوْلِ ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ الْحِلِّ وَضِيقِ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ ، وَلَيْسَ يَقَعُ النِّكَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمَخْصُوصِ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:قَوْلُهُ:{ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}:
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْبَةِ الْكَافِرِ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، فَقَالَ مَالِكٌ:لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:تُقْبَلُ .
وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَالِكٌ:إنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ ، وَلَا يُعْلَمُ إيمَانُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ . وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْآنَ ، وَفِي كُلِّ حِينٍ ، يَقُولُ:أَنَا مُؤْمِنٌ ، وَهُوَ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ ، فَإِذَا عَثَرْنَا عَلَيْهِ [ وَقَالَ:تُبْت] لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ . وَقَبُولُ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَوْبَةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ بِنَقِيضِهَا فِي الْآتِيَةِ . وَلِهَذَا قُلْنَا:إنَّهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا من قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعُمُومٍ ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ حَالَةٍ ؛ وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْقَبُولَ الْمُطْلَقَةَ فَيَكْفِي فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى لِلَّفْظِ وُجُودُهُ من جِهَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .