3 5قوله تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} إلى قوله:{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} الآية:
اختلف في تأويل هذه الآية ،فقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما: المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء وقالت عائشة رضي الله عنها{[2637]} هي اليتيمة تكون{[2638]} في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها أدنى من سنة صداقها{[2639]} فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيهن فيكملوا الصداق ،وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن .قالت: ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ،فأنزل الله تعالى:{ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} [ النساء: 127] ،أي: والذي/ يتلى عليكم في الكتاب قوله تعالى{[2640]}:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} الآية ،قالت عائشة: قوله تعالى{[2641]}:{وترغبون أن تنكحوهن} [ النساء: 127] ،رغبة أحدكم عن يتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال .
وروي عن مجاهد أن المعنى ،وإن تحرجتم من أكل أموال اليتامى فتحرجوا{[2642]} من الزنا وانكحوا النساء نكاحا طيبا .وفي تفسير عائشة رضي الله عنها{[2643]} الآية من الفقه ما قال به مالك في صداق المثل ،والرد إليه فيما فسد صداقه أو وقع الغبن في مقداره لقولها: من سنة صداقها ،فوجب أن يكون الصداق معروفا لكل طبقة من الناس على قدر أحوالهم .وإذا كان الله تعالى قد نهى عن نكاح اليتيمة حتى تبلغ صداق مثلها ،فواجب أن لا يكون نكاح بقبضة تبن ولا بما لا{[2644]} خطر له ،كما قال جماعة من العلماء منهم ابن وهب{[2645]} .وفيه أن اليتيمة ذات الوصي لا يجوز أن يزوجها الوصي بأقل من صداق مثلها ،وهذا مذهب مالك .خلاف مذهب ابن القاسم في أن ذلك جائز له على وجه النظر: إلا أنه شرط{[2646]} رضاها ،وفي ذلك نظر .واختلف في اليتيمة{[2647]} التي لها ولي وليس بوصي هل يجوز رضاها بأقل من صداقها أم لا ؟على قولين منصوصين .والأظهر أن ليس لها ذلك لأنها يتيمة فهي على تفسير عائشة{[2648]} داخلة تحت قوله تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} .وفيه أن المرأة غير اليتيمة جائز أن تنكح بأدنى من صداق مثلها ،لأنه إنما حرم{[2649]} ذلك في اليتامى وأباحه{[2650]} في غيرهن ،كذات الأب لأبيها أن يزوجها بأقل من مهر مثلها ،خلافا للشافعي في قوله: ليس لأبيها ذلك ،وكالثيب التي لا حجر عليها ،جائز لها أن ترضى بأقل من مهر{[2651]} مثلها ،وليس للولي في ذلك قول خلافا لأبي حنيفة في قوله: أن مهر المثل من الكفاءة .وفيه أن ولي{[2652]} اليتيمة له أن ينكحها من نفسه إذا عدل في صداقها ،وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما .
وقال الشافعي وغيره: لا يجوز أن يزوجها هو من نفسه ،وقد جاء عن مالك{[2653]} الكراهية في{[2654]} أن يزوج الرجل وليته من نفسه أو من ابنه .وقع ذلك في"الواضحة ".وفي الآية دليل على{[2655]} أن الولي شرط في النكاح خلافا لمن يجيز النكاح بغير ولي جملة ،دنية كانت المرأة أو شريفة ،لأن الله تعالى خاطب{[2656]} بإنكاح اليتامى والأولياء ،ولولا أن أمر نكاحهن إليهم{[2657]} لما خاطبهم بذلك ،ومثل هذا في الكتاب العزيز كثير ،كقوله تعالى:{فلا تعضلوهن} [ البقرة 232] ،وقوله{[2658]}:{وانكحوا الأيامى منكم} [ النور: 32] ،وقوله{[2659]}:{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [ البقرة: 221] ،وقد تقدم .وأما تفرقة أهل الظاهر بين البكر والثيب في ذلك ،وقولهم: إن كانت بكرا فلا بد من ولي ،وإن كانت ثيبا فلا تحتاج إلى ولي{[2660]} فلا وجه له وهو خلاف ظاهر الآية ،لأن الله تعالى لم يخص بالخطاب ولي الثيب دون ولي البكر .
واحتج أبو حنيفة ومحمد ابن الحسن{[2661]} بهذه الآية{[2662]} ،في أنه يجوز للولي أن يزوج من نفسه اليتيمة التي لم تبلغ .ورأيا أن المراد باليتامى في الآية اللائي هن على تلك الصفة ،وهي التي لا أمر لها في صداقها ،فأما{[2663]} من هي بالغ فلها الأمر في{[2664]} صداقها{[2665]} ولها أن تراضي وليها على{[2666]} ما شاءت ثم يتزوجها على ذلك فيكون لها حلالا ،كما{[2667]} قال تعالى:{فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه}{[2668]} .
وهذا لا يجوز عند مالك والشافعي{[2669]} وغيرهما{[2670]} ويفسخ هذا النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده .
ومن الحجة على{[2671]} أبي حنيفة ومن تابعه أنه قد يكون في اليتامى من تجوز حد البلوغ وهي بعد سفيهة ،فلا يجوز بيعها ولا شيء من أفعالها ،فأمر الله تعالى أولياءهن بالإسقاط لهن في صدقاتهن فليس هو أولى بالتأويل ممن عارضه ،وتأويل الآية في اليتيمة البالغ السفيهة أو في جميع اليتامى .
وقد اختلف في اليتيمة غير البالغ{[2672]} هل يجوز تزويجها قبل البلوغ بغير الأب أم لا ؟فلم يجز ذلك مالك .ورأى أن عموم قوله تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} مخصص باليتيمة{[2673]} البالغ ،وأجازه في رواية أخرى عنه إذا كانت ذات حاجة ،وأجازه غيره{[2674]} كيفما كانت ،واحتج بعموم{[2675]} هذه الآية .
فيترتب على هذا الخلاف في اليتامى: هل المراد بهن البوالغ خاصة أم لا ؟ومن حجة من خصه بالبالغ أن عائشة{[2676]} قالت: ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:{ويستفتونك في النساء} ،والصغار لا يسمين نساء ،فإن قيل: اليتيم حقيقة في الصغيرة: وقد قال عليه الصلاة والسلام{[2677]}"لا يتم بعد حلم "{[2678]} واسم النساء{[2679]} يتناول الصغيرة في قوله{[2680]}:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وقوله:{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [ النساء:22]{[2681]} .
فيقال في الجواب عنه: إن اسم النساء في قبيل الإناث كاسم الرجال في قبيل الذكور ،واسم الرجال لا يتناول الصغير ،واسم النساء والمرأة لا يتناول الصغيرة والصغائر{[2682]} والآيات{[2683]} التي وقع الاستشهاد بها يمكن أن يكون اللفظ لغير الصغيرة ،ولكن يثبت مثل ذلك الحكم في الصغيرة بدليل الإجماع واليتم يطلق على البوالغ مجازا ،بدليل أنه ذكر النساء ولا يمكن تعطيل لفظ النساء الذي هو حقيقة في البالغات ،فإن قيل: فإن كان المراد بذلك البالغ{[2684]} فكيف يتجه قول من يجوز لها{[2685]} النكاح بأقل من مهر{[2686]} المثل{[2687]} برضاها ،فالجواب أن يكون معنى الآية{[2688]} أن يستضعفها الولي ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ،وإذا ثبت أن المراد بالآية البالغ لم يكن في كتاب الله تعالى ما يدل على جواز تزويج الصغيرة ،وقد صار{[2689]} ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء الصغار لا يجوز وهو مذهب ابن القاسم لا الأصم{[2690]} ،لما في ذلك من تفويتها لغير تعجيل مصلحة .
وقد استدل قوم على جواز تزويج{[2691]} الصغيرة بقوله تعالى:{واللائي لم يحضن} [ الطلاق: 4]{[2692]} ،فحكم{[2693]} بصحة طلاق الصغيرة ،والطلاق لا يقع{[2694]} إلا بعد نكاح صحيح ،إلا أن يقال: ليس في القرآن ذكر الطلاق وإنما فيه ذكر العدة ،والعدة قد تتصور بالنكاح الفاسد أو على{[2695]} حكم الشبهة ،أو في حق الأمة تزوجها{[2696]} مولاها ،وهي صغيرة توطأ وللاعتماد{[2697]} على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها{[2698]} وهي بنت ست سنين{[2699]} .
وقوله تعالى:{ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}:
هذه الآية على ما قال الضحاك والحسن وغيرهما ناسخة لما كان في الجاهلية ،وفي{[2700]} أول الإسلام من أنه{[2701]} كان{[2702]} للرجل{[2703]} أن{[2704]} يتزوج ما شاء من الحرائر{[2705]} فقصرتهم{[2706]} الآية على أربع ،فلا يجوز الجمع بين أكثر من أربع لظاهر هذه الآية ،وقد ذهب قوم لا يعبأ/ بخلافهم إلى أنه يجوز الجمع بين تسع .واحتجوا بأن معنى قوله تعالى:{مثنى وثلاث ورباع} يفيد الجمع بين العدد ،بدليل أنه عليه الصلاة والسلام{[2707]} مات عن تسع ،ولنا فيه{[2708]} أسوة حسنة .وقال قوم أيضا لا يعد خلافهم: يجوز أي عدد كان قليلا أو كثيرا ،وقالوا{[2709]}: إن معنى الآية أن ينكح اثنتين وثلاثا وأرباعا إلى ما كان من العدد ،واستغنى بذكر بعض الأعداد عن استقصائها ،وهذا كما تقول: قرأت:"أ ،ب "...تريد جميع الحروف أبجد{[2710]} ،ولكن تقتصر على بعضها ،وهذا في كلام العرب كثير .وحجة أهل القول الأول أن أهل التفسير اتفقوا في تأويل هذه الآية على أنه أراد التخيير بين الأعداد الثلاثة لا الجمع .ووجهه أنه لو أراد الجمع بين تسع لم يعدل عن ذلك اللفظ المختصر غير الموهم ،وهو تسع ،إلى لفظ غير مختصر موهم وهو مثنى وثلاث ورباع{[2711]} ،فلما كان ذلك علمنا أن المعنى مثنى مثنى ،وثلاث ثلاث ،ورباع رباع ؛فإذن التخيير كقوله:"أولي أجنحة "{[2712]} مثنى وثلاث ورباع{[2713]} .وأما احتجاجهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك كما خص بأن ينكح بغير صداق وأن لا تنكح أزواجه من بعده{[2714]} .وقد روي أن غيلان ابن سلمة أسلم عن عشرة نسوة ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اختر منهن أربعا وفارق سائرهن "{[2715]} .
وأما قول من أجاز الجمع بين القليل والكثير ،فقول ظاهر الفساد في العربية وترده الآثار ،ولولا أن بعض أهل{[2716]} الخلاف ذكر هذين القولين لأعرضت عن ذكرهما ،واختلفوا في العبد هل له أن يتزوج أربعا أم{[2717]} ليس له أن/ يتزوج إلا اثنتين{[2718]} ،فقال أهل الظاهر وجماعة معهم: إن للعبد{[2719]} أن يتزوج أربعا .وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يتزوج إلا{[2720]} اثنتين .وعن مالك في ذلك روايتان{[2721]} ودليل إجازة ذلك قوله:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} فعم{[2722]} .
واختلف هل للحر أن يتزوج أربع مملوكات إذا خشي العنة أم لا ؟:
فذهب مالك ومن تابعه إلى جوازه ،وبه قال أبو حنيفة .وقال الشافعي: لا يتزوج إلا واحدة .وقال حماد{[2723]} لا يتزوج إلا اثنتين{[2724]} ودليل نكاح الأربع{[2725]} قوله تعالى:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} فعم .
وقوله تعالى:{فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [ النساء: 25] .
قوله تعالى:{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}:
المراد به العدل في القسم بينهن ،كما قال:{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} الآية [ النساء: 129] .والعدل في القسم بينهن والجور فيما يظهر لهن وهو الذي يملكه الإنسان .وأما الميل بالقلب فشيء لا يملك ،فلا يتصور الأمر بالعدل فيه .ودل مضمون{[2726]} هذه الآية على أن لا عدد في ملك اليمين ولا وجوب في القسم والعدل بينهن ،وظن قوم أن المراد به العطف{[2727]} على قوله:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...أو ما{[2728]} ملكت أيمانكم} .
وهذا يدل عند من{[2729]} قال: هذا على أنه يجوز التزوج{[2730]} بأربع من الإماء{[2731]} كما أجاز التزوج بأربع حرائر{[2732]} ،وهذا فيه نظر ،لأن العطف هل يرجع إلى أقرب مذكور أو يجوز رجوعه إلى أبعد مذكور ،فيه{[2733]} نظر ،وفيه أيضا دليل على أن النكاح ليس بواجب كما يقول أهل الظاهر وإنما هو في الجملة مرغب فيه .
ووجه الدليل{[2734]} من الآية أن ملك اليمين ليس بواجب بالإجماع{[2735]} ،وقد خير الله تعالى بين النكاح وبين ملك اليمين ،ولا يصح التخيير بين الواجب{[2736]} وما ليس بواجب ؛لأن ذلك مخرج للواجب عن الوجوب .ومن الدليل أيضا على ذلك قوله تعالى:{والذين هم لفروجهم حافظون ،إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [ المؤمنون 5 – 6] ،لأن من حفظ فرجه بملك يمينه واستغنى به عن النكاح توجهت المدحة إليه من الله تعالى .
وقوله:{ذلك أدنى ألا تعولوا}:
اختلف في معناه ،فقيل: معناه أن لا تجوروا عن الحق وتميلوا ،وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما .وقيل: معناه أن لا يكثر عيالكم ،واستدل به الشافعي على أن على الرجل{[2737]} مؤنة امرأته ،قال بعضهم: والشافعي حجة في اللغة .
واعترض قوله من وجهين ،أحدهما: أن الله تعالى قد أحل بملك اليمين ما شاء الإنسان من العدل .والثاني: أنه ليس بمعروف في اللغة عال يعول إذا كثر{[2738]} عياله ،وإنما المعروف في ذلك عال يعيل ،كذا قال بعضهم: وهي لغة معروفة .قال الكسائي{[2739]}: عال يعول بمعنى كثر عياله ،فصيحة سمعتها من العرب .