[ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ] هذه هي الآية الأولى من سورة الفاتحة التي يبدأ فيها الإنسان المؤمن بالتعبير عن عمق إحساسه باللّه ،من خلال ما يختزنه في داخل عقله الإيماني ،وشعوره الروحي ،وتصوّره الفكري ،وحسّه الوجداني ،من معنى الحمد للّه الذي يتحدّث اللغويون والمفسرون عنه ليضعوا أمام كلمته كلمة «المدح » أو «ضدّ اللوم » .فهي تعبِّر عن مدح الإنسان لربِّه في ما يعتقده من عظمة صفاته ،ويعرفه من امتداد نعمه ،ورجوع كلّ خير إليه ،وانطلاق كلّ وجودٍ من وجوده ..ولكن الكلمة ،في ملامحها الإيحائية ،توحي ببعض الإيحاءات النفسية ،والإحساسات الشعورية ،التي تجعل للكلمة معنًى يتصل بالشكر ،فكأنَّ الإنسان عندما ينفتح على المدح ،يتحسس موقع العظمة المنفتح على النعمة من حيث امتزاج المعنيين أو تداخلهما ،باعتبار ارتباط مواقع الوجود ببعضها البعض .ولهذا نجد أنَّ كلمة الحمد تلتقي ،في استعمالاتها ،بمواقع كلمة الشكر .وهذا ما نراه في أغلب الكلمات المترادفة التي قد تتفق في المعنى من حيث المبدأ ،ولكنَّها تختلف من حيث الإيحاءات ،مما يجعل لكلّ كلمة موقعاً يختلف عن موقع الكلمة الأخرى ،فنجد كلمة «بشر » مثلاً توضع في مقابل كلمة المَلَك ،بينما توضع كلمة «الإنسان » في مقابل كلمة «الحيوان » ،مع أنَّ معناهما ،أي: البشر والإنسان ،واحد .
لماذا الحمد للّه وحده ؟
وهذه الجملة واردةٌ في مورد الحصر ،باعتبار أنَّ للّه وحده الحمد كلّه ،باعتباره مالكاً للوجود كلّه ،والأمر كلّه .فإذا كان بعض خلقه مستحقّاً للحمد من خلال صفاته العظيمة ،أو أفعاله الحسنة ،فإنَّ اللّه هو الذي وهبه ذلك ،ومكّنه منه .فهو الذي هيّأ له الظروف والوسائل والإمكانات التي جعلت منه إنساناً محموداً ،ما يجعل من محامد خلقه امتداداً لمحامده ،باعتبار أنَّ ذلك من فعله ومن إرادته .
إنَّ الخلق كلّه يمثّل بالنسبة إلى اللّه الظلّ والصدى وامتداد الشعاع ،فلا وجود لهم إلاَّ من خلال وجوده ،ولا حمد لهم إلاَّ من خلال حمده .
وإذا كانت الكلمة تنطلق من عمق الإحساس بالعظمة والنعمة ،فلا بُدَّ من أن تطوف بالإنسان في رحاب اللّه ،في صفات الجلال والكمال ،ليعيش مع اللّه في ذلك الجوّ كلّه ،ما يجعل الكلمة تجتذب آلاف الكلمات ،كما ينطلق التصوّر في معنى الحمد الممتد في كلّ مواقع الحمد ليلتقي بآلاف التصوّرات في ما يحمله اسم الجلالة من كلّ المعاني العظيمة والصفات الحسنى .
وهذا هو التصوّر الأوّل في السورة في ما يتصوره المؤمن من تصوراته العقيديّة للّه ،لتلتقي صفة اللّه المحمود ،مع مشاعر المؤمن الحامد .
[ رَبِّ الْعَالَمِينَ] «الربّ: مأخوذ من رَبَب: وهو المالك المصلح والمربي ،ومنه: الربيبة ،وهو لا يطلق على غيره تعالى إلاَّ مضافاً إلى شيء ،فيقال: ربّ السفينة ،ربّ الدار » .وكلمة العالم: «جمع لا مفرد له كرهط وقوم ،وهو قد يطلق على مجموعةٍ من الخلق متماثلة ،كما يقال: عالم الجماد ،عالم النبات ،عالم الحيوان .وقد يطلق على مجموعة يؤلّف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان ،فيقال: عالم الصبا ،عالم الذرّ ،عالم الدنيا ،عالم الآخرة .وقد يطلق ويُراد به الخلق كلّه على اختلاف حقائق وحداته ،ويجمع بالواو والنون ،فيقال: عالمون ،ويجمع على فواعل ،فيقال: عوالم ،ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل ،ويجمع بالواو والنون ،غير هذه الكلمة » .
اللّه هو المربي:
لذلك يمتزج معنى الألوهية ،في ما تعنيه الكلمة ،بمعنى التربية .فهو الإله الذي يخلق الخلق ،ولكن لا ليتركهم في الفراغ ،بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم ،ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك ،مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم ،ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام عليها كيانهم الفكري ،ومن خلال الوسائل الحسية التي حرَّكها لتموّن جهاز العقل في وجودهم ،ليبدع ما شاء اللّه له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال ،ويربّي لهم حياتهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثّل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع .ثُمَّ كانت تربيته للوجود كلّه في مخلوقاته الحيّة والنامية والجامدة ،في ما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكلّ موجود نظاماً بديعاً من الداخل والخارج ،ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثّل في الترابط الوجودي المتحرّك أو الساكن في وجود الأشياء .
وهكذا كانت الألوهية ،التي تنفتح على الكون كلّه من قاعدة الوجود ،والتربية ،كما تتطلع إليها الموجودات من الموقع نفسه من خلال حاجتها الذاتية إليها في ذلك كلّه .
من هنا يظهر لنا أنَّ الألوهية ،في المفهوم الإسلامي ،تمثّل حقيقةً حيّةً متحركةً في علاقة الخالق بالمخلوق ،كما هي علاقة المخلوق بالخالق ،ليبقى الإنسان والحيوان والملك وكلّ مفردات الوجود في تطلّع دائمٍ ،وفي انتظارٍ يوميٍّ ،لكلّ العطاء الإلهي في استمرار الوجود ،ما يجعل من عملية النموّ عمليةً مستمرةً مع الزمن كلّه ،في حركة الوجود كلّه .
التآزر والتآخي بين مفردات الوجود:
وأمّا كلمة: [ الْعَالَمِينَ] ،فتفتح آفاقها لتشمل مفردات الوجود كلّها في اختلافها في عناصرها الذاتية وملامحها النوعية ،وحركتها الوجودية ،وأوضاعها الشكلية ،ومجالاتها الحركية ،ومداراتها الكونية ..ثُمَّ توحّدها في وحدة الخالق المربّي الذي يرعى حركة وجودها ،ويمنح كلّ واحدةٍ منها الخصائص التي تؤدي بها إلى غاية الوجود فيها ،لتتآزر كلّها في أخوّة وجودية تجعل من ساحة الكون مجالاً للتكامل ،فكلّ وجودٍ منها مسخّرٌ لوجودٍ آخر ،حتى مظاهر الصراع بينها لا تبتعد عن نقطة التوازن في دائرة التكامل ،فالحيوان الصغير الذي ينمو ليكون طعاماً للحيوان الكبير ،لا يعيش الصراع بين وجودين ،ولكنه يمثّل الوجود الذي يمنح ذاته لوجودٍ آخر ،ليتابع نموّه واستمراره في حركة الوجود الصاعد إلى الغاية الكبرى للوجود كلّه ،من خلال التخطيط الإلهيّ للنظام الوجودي الكونيّ الكبير .
ومن خلال ذلك ،نستلهم الفكرة الإيمانية التي ترتكز على تآخي الموجودات في حركة الوجود .وهذا ما نتمثّله في التطلّع الإيماني الذي ينطلق به الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين ( ع ) عندما يتطلع إلى الصباح ،وهو يستقبل الكون كلّه في شروق الشمس ،فيشعر بوحدة الإنسان مع الكون كلّه بين يدي اللّه ،وفي قبضته وتدبيره ،في دعاء الصباح والمساء:
«أصبحنا ( أو أمسينا ) وأصبحت الأشياء كلّها بجملتها لك ،سماؤها وأرضها وما بَثَثْت في كلّ واحدٍ منهما ،ساكنه ومتحرّكه ومقيمه وشاخصه ،وما علا في الهواء وما كَنّ تحت الثرى .
أصبحنا في قبضتك ،يحوينا ملكك وسلطانك ،وتضمّنا مشيّتك ،ونتصرّف عن أمرك ،ونتقلّب في تدبيرك ،ليس لنا من الأمر إلاَّ ما قضيت ،ولا من الخير إلاَّ ما أعطيت » .
وهذا هو المفهوم الثاني من التصوّر الإسلامي للعقيدة باللّه ،فهو ربّ العالمين ،أي: «ربّ الوجود » .وهو الربّ الذي يرعى خلقه ويقودهم إلى ما فيه هداهم ،ويحقّق لهم التوازن والتكامل في دائرة الوجود الخاص أو العام .