[ ألم] من الحروف المقطعة التي ابتدأت بها أكثر من سورة في القرآن ،وقد قال المفسّرون في معناها آراء عدّة نذكر منها:
الرأي الأول: إنّها من الرموز والأسرار التي تعبّر عن تاريخ مُعيَّن تنتهي فيه الدنيا ،أو تتمثّل فيه بعض الحوادث ،وذلك على أساس حساب الحروف الأبجدية الذي يجعل لكلّ حرف منها رقماً معيناً يعبِّر عن عدد معيَّن .
ونحن لا نوافق على هذا الرأي ،لأنّ القرآن لم يتنزّل ليتّجه مثل هذا الاتجاه المتكلّف في التعبير عن الحوادث والأشياء ،وبالتالي ليربط النّاس بأسرارٍ وألغازٍ ومعمياتٍ يختلف النّاس في فهمها ؛لأنَّ ذلك لا يحقِّق أيَّ هدف للمعرفة وللّهدى الذي اتبعه القرآن ليشقّ طريقه في الحياة .
الرأي الثاني: إنّها لإثارة انتباه النّاس إلى الآيات التي يريد النبيّ ( ص ) أن يقرأها عليهم ؛فقد كان المشركونفي ذلك الوقتيعملون على إثارة الضوضاء واللّغو عند قراءة النبيّ ( ص ) للقرآن ،ليمنعوا الآخرين من الاستماع إليه ،فجاءت هذه المفردات غير المألوفة لديهم لتؤدّي دورها في إثارة الانتباه من خلال غرابتها على أسماعهم ،لأنّها ليست من النوع الذي تعارفوا عليه ،فليس لها مدلول معيَّن ومضمون واضح .ومن هنا ،يبدأ التساؤل الداخلي الذي يهيّىء النفس لانتظار ما بعدها لتستوضح معناها من خلال ذلك .وتتحقّق الغاية من ذلك في سماعهم لآيات اللّه .
ونحن لا نمانع في معقولية هذا الرأي وانسجامه مع الأجواء العدائية التي كان المشركون يثيرونها أمام النبيّ ( ص ) ممّا حدَّثنا القرآن الكريم عنه في قوله تعالى: [ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيه] [ فصلت:26] .
ولكن ذلك كان موقف المشركين في مكة ،بينما يغلب على السور التي اشتملت على هذه الكلمات الطابع المدني في نزولها على النبيّ ( ص ) ،وفي المدينة لم تكن هذه الأجواء مثارة ،لأنَّ المشكلة لم تكن مطروحة هناك ،فلا يصلح هذا الرأي لتفسير هذه المفردات .
الرأي الثالث: ما ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان حيث قال: إنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً ،ويؤيد ذلك ما نجد أنّ سورة الأعراف المصدرة ب [ المص] في مضمونها ،كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص .وكذا سورة الرعد المصدّرة ب [ المر] في مضمونها ،كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات .ويستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين اللّه سبحانه ورسوله ( ص ) خفيت عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها ،إلاّ بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطاً خاصاً[ 3] .
ونلاحظ على ذلك ،أنَّ هذا الرأي لا يملك أيّ وضوح للمضمون الذاتي لهذه الحروف ،لأنَّ الارتباط الذي يتحدّث عنه لا دليل عليه إلاَّ بالاستشعار الذي لا يوحي بأية فكرة معيّنة ،وقد نتساءل: ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة بين اللّه ورسوله ،لا يملك النّاس أن يفهموها ،ولا يعمل النبيّ ( ص ) على أن يشرحها لهم ،في الوقت الذي كان القرآن فيه منزّلاً على النبيّ ( ص ) وعلى النّاس لأنه ذكر له ولقومه وللعالمين .
الرأي الرابع: إنَّ اللّه سبحانه وتعالى تحدّى النّاس بالقرآن ،وبالغ في التحدّي بطرق متنوّعة ،فأراد أن يُبيّن لهم أنَّ هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله ،لم يكن مؤلفاً من حروف يجهلونها ،لأنَّ المادة الخام التي صُنع منها القرآن موجودة بين أيديهم ،وهي هذه الحروف المتنوّعة المعلومة لديهم ،فإذا كانت عندهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن ،فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم ،ولعلّ هذا من أبلغ أنواع التحدّي ،تماماً كما تواجه إنساناً واقفاً أمام مبنى ذي شكل هندسي متقن ،فتقول له: هل تستطيع أن تبني مثل هذا ؟ثُمَّ تعقب على ذلك بأنَّ المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنية .إنه سيقف عاجزاً من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله بأصولها الفنية .
وقد يكون هذا التفسير أقرب التفاسير إلى الفهم ،وينسب إلى الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت ( ع ) الإمام الحسن العسكري ( ع ) ،برغم أنه لم تثبت صحة نسبته إليه لعدم وثاقة رواته ،ولكن من الممكن أن ينسجم مع طبيعة الموقع الذي وردت فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم ،ففي هذه السورة عندما تلتقي بكلمة: [ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ] فربما تفهم منها أنَّ هذا الكتاب الكامل في كلّ شيء ،مصنوع ومؤلف من هذه الحروف ،فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته ،فهذه الحروف أمامكم ،فاصنعوا منها ولو سورة ممّا تشاؤون .
وقد يتأمّل المتأمّل في هذا الرأي ،فلا يجد في بعض المواضع القرآنية ما ينسجم معه ،أو لا يلمح مثل هذا التوجيه في ما قدّمناه من تفسير ،ولكن المهم أنَّ التفسير يتحرّك في مثل هذه الأجواء ؛فإن استطعنا أن نقرّبها إلى أذواقنا ،وإلاَّ فحسبنا أن نرجع علمها إلى اللّه والراسخين في العلم ،فتكون مما استأثر اللّه بحقيقة علمه ،ضاربين صفحاً عمّا يخوض فيه المفسّرون من متاهات الاحتمالات التي لا تستند إلى أساس صحيح .